جهاد الخازن
في مثل هذا اليوم من سنة 1975 توفيت أم كلثوم، الست أو ثومة كما كانوا يسمّونها تحبباً، أو كوكب الشرق التي اجتمع العرب حولها وهم متفرقون في قبائل وعشائر ومِلل ونِحل.
علاقتي بالطرب تقتصر على سماعه، وهذا أفضل فعندما غلبني الطرب وأنا أسمع ليونيل ريتشي يغني في صالة ويمبلي بحضور الأمير تشارلز والأميرة ديانا قبل أن يطلقا، هتفت: ما صار، ما صار. تقبر أبو صيّاح، وهو ما جعل الإنكليز حولي ينظرون إليّ وكأنني قادم من المريخ.
مع هذه الخلفية أزعم أن أجمل غناء سمعته كان وأم كلثوم تغني «الأطلال» في بعلبك، وفيروز تغني «القدس» في ظل أرز لبنان قبل أن يسمعها الناس.
أبقى اليوم مع أم كلثوم، بنت طماي الزهايرة التي بكت حتى أخذها أهلها إلى كُتّاب القرية، وكانت مؤمنة حفظت القرآن، وقالت إنها تعلمت منه مخارج الحروف.
أمير الشعراء أحمد شوقي قدَّم لها يوماً خمراً فرفضت، لأنها لا تعاقرها و «المواجهة» بينهما سجلتها قصيدة قصيرة جميلة وشوقي يقول:
سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها/ واستخبروا الراح هل مست ثناياها
والبيت الأخير في القصيدة مؤثر وهو:
يا جارة الأيك أيام الهوى ذهبت/ كالحلم آهاً لأيام الهوى آها
أم كلثوم غنت قصائد دينية ووطنية، مثل «نهج البردة» و «إلى عرفات» و «سلوا قلبي» و «ولد الهدى» وأيضاً «والله زمان يا سلاحي» و «أصبح عندي الآن بندقية» و «مصر تتحدث عن نفسها...».
هي غنت لأشهر شعراء جيلها، فلا أسجل أسماء، وإنما أكتفي بأحمد رامي الذي غنت له عشرات القصائد الفصحى والشعر العامي، وبقي أربعين سنة يقول لها «يا روحي»، فتزوجت غيره وتزوج قريبة له في غيابها.
بما أن دراستي أدبية فإنني أقدِّم الشعر الفصيح، وأحمد رامي غنت له أم كلثوم:
الصب تفضحه عيونه/ وتنم عن وجد شؤونه
والبيت التالي أراه من أجمل الشعر العربي قديمه وحديثه وهو:
إنا تكتّمنا الهوى/ والداء أقتله دفينه
والصديق العزيز فاروق شوشة قال لي إن أم كلثوم لم تغنه بسبب كلمات عجزه التي لا تناسب أغنية عاطفية.
وغنت لابن النبيه المصري:
أفديه إن حفظ الهوى أو ضيّعا/ ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا
وغنت لعلي الجارم:
ما لي فتنت بلحظك الفتاك/ وهجرت كل مليحة إلا
وكانت، بإجماع أصدقائها، تقرأ الشعر وتحفظه، وقد غنت لأبي فراس الحمداني:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر/ أما للهوى نهي عليك ولا أمر
والقصيدة كلها جميلة وآخر بيت فيها:
وقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا/ فقلت معاذالله بل أنت لا الدهر
وقرأت مقابلة معها أجراها الناقد رجاء النقاش ونشرتها مجلة الكواكب سنة 1966، ووجدت أنها تستشهد بأبيات للشريف الرضي أحفظها لجمالها مثل:
وتلفتت عيني فمذ خفيت/ عني الطلول تلفت القلب
وأيضاً:
خطبتني الدنيا فقلت لها ارجعي/ إني أراك كثيرة الأزواج
توكأت في ما سبق على كتاب «أم كلثوم» الذي يحمل إهداء مؤلفه الصديق الراحل عبدالله أحمد عبدالله (ميكي ماوس) وكتاب «أم كلثوم، صوت في تاريخ أمة» للناقد والإذاعي البارز سعد سامي رمضان، صادر عن معهد الموسيقى العربية في تونس، ولا يحمل تاريخ النشر.
أم كلثوم جعلت باشوات مصر يلقون طرابيشهم إلى السقف طرباً، إلا أن الصديق الدائم وفيق رمضان انتقد في «النهار» أن تطول أغنية ساعة ونصف الساعة، فصعد عمّال المطبعة إلى صالة التحرير ليضربوه، ونزل على الدرج هرباً. كان يجب أن يقدِّر رأي الباشوات في كوكب الشرق.