جهاد الخازن
حدث يوماً أن اتصل بي صديق عزيز هو الأخ نبيل الحمر، وزير الإعلام البحريني في حينه، وقال لي إن الشيخ عيسى بن سلمان، أمير البحرين، سأل عني. قال لي إنني وعدت الشيخ عيسى بزيارته في بلده وأنا أجري له مقابلة في باريس حيث توقف وهو في طريقه للعلاج في الولايات المتحدة. الشيخ عيسى كان مشهوراً بذاكرته القوية، وطلبت من الأخ نبيل أن يعطيني أسبوعاً لأتدبر أمور عملي ثم أذهب إليهم. في نهاية الأسبوع اتصلت بالأخ نبيل وقلت له إنني سأصل خلال يومين، وفي اليوم التالي سمعت خبر وفاة الأمير، ولا أزال حتى اليوم ألوم نفسي لأنني أضعت فرصة أن أرى هذا الصديق الكبير العزيز مرة أخيرة.
كنت قبل أسابيع في الكويت لحضور الاجتماع السنوي لمؤسسة عبدالعزيز بن سعود البابطين للإبداع الشعري، فأنا عضو في مجلس الإدارة، وبعده مباشرة مؤتمر الدول المانحة للاجئين السوريين. كانت عادتي إذا زرت الكويت أن أعرِّج على الصديق جاسم الخرافي، رئيس مجلس الأمة السابق، وهو اتصل بي وقلت له إنني مضطر إلى السفر فعندي مؤتمر آخر في بيروت، واتفقنا أن أراه في المرة المقبلة. قبل أيام كنت في طريق العودة إلى لندن من الأردن، وقرأت في صفحات الوفيات في جريدة محلية نعي ذلك الصديق العظيم. وعدت إلى لندن ووجدت أن زميلة تقيم في الكويت أرسلت إليّ «واتساب» ينقل عن أنور جاسم الخرافي خبر وفاة والده.
صُدمت وحزنت فقد رأيت هذا الصديق مرة بعد مرة في بيته في الكويت، وأيضاً في مكاتب شركاته الكبرى. وكنت وزوجتي على غداء عنده في بيت له قرب لندن، بحضور الشيخ ناصر المحمد الصباح، رئيس وزراء الكويت في حينه، ولا أذكر أن الأخ جاسم شكا يوماً من مرض أو أنني لاحظت أنه مريض.
كان ناجحاً في العمل الوطني وفي السياسة ودوداً متواضعاً، وقال لي يوماً إنه لا يزال يتوق إلى أيام الشباب والمشي في شوارع بحمدون المحطة مع زوجته. كان كتوماً في عمل الخير. مثله في الرجال قليل. رحمه الله ورحمنا.
ومن صديق إلى صديق آخر هو عبدالله النجار، وكان ديبلوماسياً لبنانياً عرفته في سبعينات القرن الماضي وكنت أزوره في بيت له في ما يُسمّى «القاطع الغربي» من بيت مري، فنجلس للحديث على شرفة وأمامنا بيروت من الميناء حتى المطار.
عبدالله النجار ألف كتاباً عنوانه «مذهب الموحدين الدروز»، أي طائفته، وعندما عرضه على كبار الطائفة في «خلوة» الدروز، في شارع فردان قرب فندق بريستول، اعتدى عليه بعض «الجهّال» على أساس أنه كشف من أسرار الطائفة ما لا يجوز. أستاذي في الجامعة الأميركية سامي مكارم ألّف بعد ذلك دراسة عن الدروز عنوانها «أضواء على مسلك التوحيد» بموافقة كبار الطائفة «صحَّح» فيه بعض ما نشر الأخ عبدالله النجار الذي قتِل خلال الحرب الأهلية سنة 1976 مع بعض عائلته، واعتقدنا في البداية أن الجريمة سياسية ثم وجدنا أنه راح ضحية صغير مدمن مخدرات من أسرته.
عبدالله النجار أهداني نسخة من كتابه، وكان يصرّ لي على أن مذهب الدروز وكتابه «الحكمة» لا يضم على الإطلاق شيئاً يمكن أن يسبب خجلاً أو إحراجاً، فالدروز موحدون ولقبهم «بنو معروف»، ودينهم يضم فلسفة يونانية وغيرها إلا أنه إنساني قويم.
عادت إليّ ذكرى ذلك الصديق العزيز عندما عثرت على نسختي من كتابه بعد أن فقدتها سنوات واعتقدت أنها ضاعت. ولن أسجل هنا شيئاً مما ورد في الكتاب طالما أن كبار الطائفة لا يريدون ذلك، ولكن أقول إن قدرة المؤلف ومعرفته باللغة العربية تفوق أبناء عصره جميعاً، فقد أسرتني، وأنا طالب أدب عربي في الجامعة، كلماته التي خلت من أي خطأ سوى كلمات قليلة في الطباعة نبَّه إليها المؤلف. كم حزنت لموته وقد انتقلت للإقامة في لندن.
وأختتم بصديق أتمنى له عمراً مديداً هو حرشو البرازي، فقبل أيام أرسل إليّ أخي صوراً له تلقاها من أحد الأقارب، ما جعلني أستعيد ذكرياتي معه، فقد عرفته في نادٍ للخيل على طريق مطار بيروت، وكانت شهرته أنه كان يودع المراهقة عندما قتل الانقلابي السوري سامي الحناوي في بيروت سنة 1951 انتقاماً لقريبه محسن البرازي الذي قتله الحناوي مع حسني الزعيم في انقلاب لم يدُم أكثر من أشهر قليلة.
روى لي حرشو، واسمه الكردي يعني الدب على ما أذكر، كيف قتل سامي الحناوي بعد أن رصد ورفاق له تحركاته في لبنان. هو قال لي إنه قال للحناوي: يا سامي أنت قتلت كثيراً من ربعنا، وأطلق عليه رصاص مسدسه. أرجو له طول العمر والصحة.