جهاد الخازن
أكمل من حيث توقفت أمس وأحمد شوقي يقول: آمنت بالله واستثنيت جنته / دمشق روح وجنات وريحان. غير أن لشوقي شعراً آخر أقرب إلى واقع الحال يعود إلى سنة 1926 بعد أن ضرب الفرنسيون دمشق ودخلوها في 18/10/1925، ما سمي «نكبة دمشق». النكبة اليوم أكبر وبأيدينا نحن، أي أهلها، ونقول مع شوقي: سلام من صبا بردى أرق / ودمع لا يكفكف يا دمشق.
تحدثت أمس عن سوق الحميدية، فلا أنسى شارع مدحت باشا (الشارع المستقيم) الموازي له حيث أسماء أصحاب المتاجر تعكس مهنهم، فنقرأ القباني (يبيع مال قبان) واللحام والخباز وقصاب وصباغ، وحتى حبّال، وهو يصنع الحبال لا المهنة الأخرى.
الصراط المستقيم في القرآن الكريم، وهو صراط الحق الذي يوصل إلى الله. والشارع المستقيم ينتهي بكنيسة يوحنا المعمدان، وذِكر الشارع يرد في سفر أعمال الرسل فقد أوحِي للقديس بولص أن يترك بلدته طرطوس ويزوره ليلتحق بالسيد المسيح بعد ذلك. كانت سورية تفاخر بأفضل تعايش بين الأديان حتى حلت الكارثة.
قبل «نكبة دمشق» الحالية كانت المدينة القديمة شهدت افتتاح مطاعم ومقاه ومعارض فنية ودور ثقافة، وعرفت انتعاشاً سياحياً كبيراً، فيما غزت الدراما السورية شاشات التلفزيون العربية وأنتجت أفلام سورية ناجحة، حتى أن اللهجة السورية أصبحت مفهومة ومقبولة حول العالم العربي، كاللهجة المصرية قبلها.
أذكر أنه كان في دمشق يهود، وأعتقد أن الأخيرين منهم نزحوا في التسعينات، ويهود سورية يقيم معظمهم في حي بروكلن في نيويورك، وهم من أنجح يهود أميركا والعالم، حتى أن العقار في مناطقهم أعلى سعراً بكثير منه في الأحياء الأخرى.
جامعة اوكسفورد أرسلت ابني ليدرس العربية في دمشق، ما أتاح لي أن أعرف أن فيها المعهد الفرنسي للدراسات الإسلامية والشرقية الذي قد يحتفل بعد سنوات بالذكرى المئوية الأولى لتأسيسه. ووجدت أن طلاباً من حول العالم يقصدون سورية لتعلم العربية فيها، فأهلها يتخاطبون بالعربية ولا يعرفون بونجور وهاي وسافا.
كبرت وأصبحت زيارات سورية خليطاً بين العمل والسياحة. وذهبت مع أصدقاء من لندن للسياحة فقط في المناطق الجنوبية من سورية، واستضافت السيدة أسماء الأسد الأصدقاء في بيتها، وذهبتُ لجلسة عمل مع الأخ خالد مشعل.
حماس تركت سورية ومخيم اليرموك يُقصَف، والأخبار من الفيحاء بين سيء وأسوأ منه، فأفزع إلى الذكريات.
سأتجاوز الرئيس السوري والمسؤولين جميعاً لأتذكر جلسة بسيطة مع الدكتور راتب الشلاح، وإذا لم تخني الذاكرة فهو أهداني كتاب ذكريات والده الحاج بدرالدين. كانت هناك صفحات عن قطعة أرض ورثها الرئيس شكري القوتلي عن والدته في الغوطة، وحاول أن يبني فيها دارة يسكنها، أو أن يشتري أرضاً مجاورة لتوسيعها إلا أنه لم يكن يملك المال لذلك. شكري القوتلي كان يذهب أحياناً إلى مكتبه في تاكسي فقد قضى وقتاً طويلاً من دون أن يملك سيارة.
لن أقارنه بالناس اليوم ولكن أقول إن حرشو البرازي اغتال سامي الحناوي في بيروت، انتقاماً منه لأنه قتل حسني الزعيم، زعيم الانقلاب السابق، ورئيس الوزراء محسن البرازي. أين اغتاله؟ في محطة ترمواي في المزرعة والحناوي ينزل بعد رحلة بخمسة قروش. عرفت حرشو البرازي على مدى سنوات فقد جمعنا نادٍ للخيل في بيروت وكان يحكي لي مغامراته، وهو ترك لبنان خلال الحرب إلى كاليفورنيا وانقطعت أخباره عني.
رئيس لا يستطيع بناء بيت، وقائد انقلاب يستعمل الترمواي، لن أزيد على همومي بالمقارنة بناس هذه الأيام.
هل يعود قلب العروبة النابض ليخفق؟ أغلّب الرجاء على البلاء الذي نحن فيه وأقول إن سورية ستعود، ثم تساورني شكوك وأسأل نفسي: متى تعود؟ بت أخشى ألا أرى ملاعب الشباب مرة أخرى، أو أراها فلا أعرفها وأقول: ليتني مت قبل هذا.