نحن أطلقنا حضارة العالم، وعندنا ما نفاخر به أمم الأرض.
كانت جزيرة العرب مهد الجنس السامي على ما يُرجَّح، وأنشأت الشعوب التي هاجرت في ما بعد الى الهلال الخصيب. هذه الشعوب أصبحت مع تعاقب الأجيال، أمم البابليين والأشوريين والفينيقيين والعبرانيين، وفي تربة هذه الجزيرة الرملية نشأت العناصر الأصلية للديانة اليهودية وبالتالي المسيحية... وقد ظهرت ديانة العرب بعد اليهودية والمسيحية، فأصبحت ثالثة الديانات التوحيدية وخاتمتها.
ولم ينشئ العرب أمبراطورية وحسب، بل أنشأوا ثقافة زاهرة أيضاً، فقد ورثوا المدنية القديمة التي ازدهرت على ضفاف الرافدَيْن وفي وادي النيل، وعلى شواطئ البحر المتوسط الشرقية، وكذلك تشربوا واقتبسوا أهم معالم الثقافة اليونانية والرومانية، وقاموا مقام الوسيط في أن نقلوا الى أوروبا خلال العصور الوسطى، كثيراً من هذه المؤثرات الفكرية التي أنتجت بالتالي يقظة أوروبا الغربية، ومهّدت لها سبيل نهضتها الحديثة.
وكان الفينيقيون أول مَنْ نشر في العالم نظاماً خاصاً للكتابة بالحروف الهجائية المجردة وعددها إثنان وعشرون، وكانت هذه الحروف أساساً لكل الحروف الهجائية التي يكتب بها اليوم أبناء أوروبا أو آسيا أو أميركا أو أفريقيا، فصحَّ قول القائل إن هذا أعظم اختراع اخترعه البشر على الإطلاق... امتاز شبه جزيرة سيناء باحتوائه على أقدم مثال للكتابة الأبجدية كشف عنه المنقبون، ومنه انتقلت الأبجدية الى سورية الشمالية وبقية العالم.
أتوقف هنا لأقول إن ما سبق، باستثناء الفقرة الأولى القصيرة، هو ما نقلت عن كتاب «تاريخ العرب» الذي ألّفه بالإنكليزية الدكتور فيليب حتّي، وتُرجِم الى العربية بمساعدة الدكتور داود جرجي، والدكتور جبرائيل جبور، والى لغات كثيرة أخرى. الكتاب هو المرجع الأول عن حضارة العرب، والدكتور حتّي خريج جامعة كولومبيا، وكان أستاذاً في جامعة برنستون.
ما نقلت هو ما يُعلَّم في جامعات العالم عن العرب وحضارتهم، فأسأل أين كنا وأين صرنا؟
صرنا في الحضيض، وفي حين أن موضوعي اليوم عن آثار الحضارة العربية، فإنني لا أنسى سبي بنات الإيزيديين، وهنَّ دون المراهقة واغتصابهن، أو قتل المصلّين في السعودية.
أختار من مواضيع جمعتها وتحقيقات تكفي لملء كتاب ما تتّسع له هذه العجالة:
- انتحاري يفجّر نفسه في معبد الكرنك في الأقصر.
- سباق لإنقاذ الآثار الفنية التي سطى عليها «داعش». وفي خبر مشابه، هناك معلومات عن أن هذه الآثار تُباع عبر الإنترنت (e-Bay). «داعش» جماعة لصوص وإرهابيين.
- مطرقة تدق رأس الحضارة، والمقال يتحدث عن تدمير «داعش» آثاراً لا تقدَّر بثمن في العراق وسورية، ومحاولة هذا التنظيم الإرهابي طمس تاريخ يعود بعض آثاره الى أربعة آلاف سنة.
- «داعش» يفجر كنوز الشرق الأوسط، وهذا تكرر في مقال آخر يتحدث عمّا حلّ بآثار نينوى ونمرود، التي بقيت قائمة منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وفي مقال مجاور، كان الحديث عن أسوأ تدمير ثقافي منذ هتلر.
- المؤرخ البريطاني توم هولاند، في مقال شغل صفحتين في إحدى جرائد الأحد اللندنية، قال: شُوّه التاريخ ليصاب المستقبل بكساح.
- مجزرة في مدينة تدمر المقدسة. قصص الناجين. والمقال مرفق بصور عن تدمير الآثار، وقتل الناس.
وأقرأ عن إرهاب ثقافي ثم أقرأ عن الضحايا، والروح البشرية أهم من أي شيء آخر، إلا أنني اليوم أتحدث عن جريمة العصر، أو تدمير تاريخ نفاخر به العالم كله.
عشت العمر طالب سلام حتى مع المستوطنين في فلسطين المحتلة، وقاومت كثيراً الغضب، ثم انهزمت وأصبحت أتمنى لو يُقتَل الإرهابيون جميعاً، قبل أن يقتُلوا ما بقي من تاريخ هذه الأمة وكرامتها.
«داعش» إرهاب مجرم مدان، لن يلغي التاريخ فنحن أطلقنا حضارة العالم.