زين العابدين الركابي
الرئيس المصري المعزول محمد مرسي ضحية من؟.. وضحية ماذا؟
هل هو ضحية «العناد الشخصي».. فقد كان في إمكانه أن يبقى في مكانه لو قدم المقترحات أو خارطة الطريق التي طرحها وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي.. وخلاصتها: تعطيل أو تعليق الدستور، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وتكوين حكومة كفاءات وطنية، وتكوين لجنة عليا للمصالحة الوطنية، وصياغة ميثاق شرف إعلامي.. لا سيما أن هذا كله ليس فيه افتئات على الإسلام!.. قد يكون الرجل رحل بسبب «عناده الشخصي».. وثمة حالات كثيرة في التاريخ السياسي تشير إلى أن رؤساء عديدين قد فقدوا كراسيهم بعلة العناد الشخصي الذي يحسبه بعضهم صلابة أو حزما في القرار والموقف.
أو هل ذهب الرجل كضحية لتنفيذ «قرارات سرية» تحمّل وحده تبعاتها العلنية على حين أن صانع أو صناع القرار أناس غيره ألزموه - من خلال التنظيم - بتنفيذ قرار لم يتحملوا هم أي مسؤولية علنية فيه؟!
هذا احتمال وارد بقوة:
أولا: لأن تنظيم الإخوان في مصر لم يحل نفسه حتى بعد أن وصل إلى الحكم.
ثانيا: أن من دواهي التنظيمات السرية وشهواتها النزوع إلى تحريك العالم وإدارته بإرادة أشخاص لا يتمكن العالم من مساءلتهم أو محاسبتهم.
ثالثا: أن العضو في التنظيمات السرية لا يستطيع أن يقول لا، ولا يستطيع أن يرفض ما كلف به، وإلا فإن مكانته في الجماعة لا تزال تتراجع حتى تصل إلى درجة الصفر، وهي درجة تمهد لفصله من الجماعة.
وقد يُحتمل ذلك في مرحلة ما قبل الدولة والحكم.. أما في مرحلة الوصول إلى الحكم فإن البلاء يتضاعف، والقيود تشتد من حيث حاجة عضو الجماعة إلى أعوان يثق بهم ويعتمد عليهم في تصريف شؤون الدولة.
أو هل ذهب محمد مرسي ضحية «فقدان رؤية» تصريف شؤون دولة كبيرة عميقة في حجم مصر.. وإذا كان يتعذر على شخص فرد أن يملك هذه الرؤية، فإن الجماعة نفسها لم تكن تملك هذه الرؤية كذلك.. والأمر لا يتطلب التفتيش في أدراج قادتها للاستيثاق من عدم وجود أوراق تحمل هذه الرؤية.. يكفي في ذلك أن الأداء السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي خلال عام كامل كان مرتبكا ومضطربا.. ولا يأتي الاضطراب إلا بسبب فقدان الرؤية - الإجمالية والمفصلة. والعجب العجاب أن يقدم حزب أو جماعة على تسلم السلطة وهم محرومون من «رؤية» تؤهلهم للقيام بهذه المهمة!!
وفرق كبير بين من يأتي إلى السلطة تلبية لطموحات هائلة مجنحة، وبين من يتقدم لها وهو يستصحب منهجا واضح البدء، والمسار، والهدف.
نقول هذا لئلا نشكك في نية الرجل وصلاحه الشخصي، بيد أن النية لا تغني عن المنهج الصحيح. والصلاح الشخصي لا يصلح – وحده - لتولي الأمانات والمسؤوليات الكبيرة، وفي طليعتها: إدارة الدول.. ولنضرب مثلين في صميم القضية:
1) المثل الأول: أن أبا ذر - رضي الله عنه - رغب في أن يخدم الأمة من خلال منصب عام، وأبدى رغبته هذه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. هنالك قال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): «يا أبا ذر إنك لضعيف، وإنها لأمانة، وإنها يوم القيامة لخزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي للمسلمين فيها».
وهل كان أبو ذر ضعيفا في تقواه وصلاحه؟.. لا.. ذلك أن النبي وصفه - في موضع آخر - بأنه ما أقلت الأرض ولا أظلت السماء أصدق لهجة من أبي ذر. إنما أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعلم أمته الفصل الواجب والواضح بين «الصلاح الشخصي».. وبين «القدرات الفنية والإدارية» على النهوض بالمسؤوليات العامة في الدولة.
2) المثل الثاني: عيّن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خالدا بن الوليد قائدا للجيش، وفي الصحابة من هو أعلم من خالد وأتقى مثل عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله (رضي الله عنهم) وأمثالهم.. والسبب أن خالد بن الوليد كان يملك من الفنون العسكرية وخبرات القتال ما لا يملكه أولئك. وبمقتضى «خبرته الفنية» ولي هذا المنصب الكبير.
ثم نلتفت بالسياق إلى قضية كبرى نادى بها بيان القيادة العامة للجيش المصري. فمن ركائز «خارطة الطريق» ركيزة تكوين «لجنة وطنية عليا للمصالحة الوطنية».. وهذا أمر جد مهم.. فمنذ قيام ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، ثم بعد أن تولى محمد مرسي رئاسة جمهورية مصر - بوجه خاص - ازدحمت مصر بكميات هائلة من الأحقاد والضغائن والكراهية وسوء الظن والتربص. وهي كميات ملأت الأنفس والصدور بنوازع التفرقة والانقسام والتشظي، ترجمت في سياقات شريرة من الهجاء والقذف والدعاية السوداء، أي ترجمت إلى كل ما يفسد ذات البين.
وهذا هو أسوأ أنواع «تفتيت الدول والمجتمعات» الذي تشهده المنطقة اليوم.. هناك «التمزيق الجغرافي» الذي وقع في بلدان عربية.. أما الصورة الأخرى من مخطط التفتيت فهي «التفتيت المعنوي»، أو الفكري والثقافي والاجتماعي. فقد يعيش الناس في «رقعة جغرافية واحدة»، لكن قلوبهم متنافرة أشد ما يكون التنافر، وإراداتهم متعارضة وكأنهم أعداء يلعن بعضهم بعضا، ويكيد بعضهم لبعض.. وهذه خطة تستهدف الوطن العربي كله بوجه عام.. ومصر بوجه خاص.. ولنسمع لعاموس بادلين (رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق) وهو يقول: «إن مصر هي الملعب الأكبر لنشاطنا. ولقد نجحنا في تصعيد التوتر الطائفي والاجتماعي في مصر لتوليد بيئة متصارعة دائما».
وحين تسفر المخاطر، لا يكون هناك قبول البتة لأي عذر، أو تجاهل. فتجاهل المخاطر عندئذ يشبه خيانة قائد عسكري كلف بحماية ثغر أو جبهة، فلما رأى العدو يزحف تجاهل الزحف فنام فوقعت الكارثة.. ثم حين تسفر المخاطر يتوجب قطع البرامج المعتادة لأجل إعادة ترتيب الأولويات بهدف أن تكون مجابهة المخاطر هي «الأولوية المطلقة» المتعين مباشرتها، بلا تردد، ولا بطء.
ونحن نعلم أن في مصر أزمات كثيرة مركبة.. ومن دون أي تهوين من شأن هذه الأزمات، فإن «المصالحة الوطنية» تظل أولوية رئيسة.
لماذا؟
لأنه لا أمن في ظل التنافر الوطني.
ولا إنتاج في ظل المكايد المتبادلة.
ولا اهتمام بشأن «مصر كلها» في ظل الشقاق الحزبي، وتقديم الحزب على مصر.
وبمناسبة التنافر الحزبي الكريه، ينبغي الاعتبار بالتجارب السابقة.. فقبيل ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 كانت مصائر مصر «لعبة» بين الأحزاب المتناكرة، وكانت الحكومات تتألف ثم تسقط خلال أسبوع أو أقل. وكان التخبط هو سيد الموقف. وكان الصراع الحزبي يلتهب دوما ولا يبرد قط، وهو صراع نشأت عنه مكايدات وخصومات حملت الحزبيين أجمعين على أن يجعلوا أوليتهم الكبرى هي الانتصار للحزب وزعامته، لا الانتصار للوطن وقضاياه.. وفي غمرة هذا الصراع الكالح العقيم المجنون تعطلت المصالح الحيوية للناس والوطن حتى سئم الناس الأحزاب وأفعالها واستهتارها.
هنالك: تقدم الجيش المصري عام 1952 لإنقاذ مصر. وكأن الزمن قد استدار كهيئته في ذلك العام، بمعنى أنه أول من أمس تقدم الجيش المصري لإنقاذ مصر أيضا.
هل معنى ذلك أننا نسوغ الانقلابات؟.. لا.. قطعا، فهي انقلابات أساءت أيضا حين تولت القيادة السياسية، ومن هنا حصل ارتياح لتوكيد الجيش بأنه زاهد في الحكم والسياسة.
والمهم أن يعقل المدنيون، وأن ينتهزوا فرصة المصالحة الوطنية لجمع الأمة المصرية كلها في وحدة يبتغيها الناس، ويريدها الله جل ثناؤه.