المزارعون الغربيون على مفترق طرق

المزارعون الغربيون... على مفترق طرق

المزارعون الغربيون... على مفترق طرق

 العرب اليوم -

المزارعون الغربيون على مفترق طرق

بقلم - أمير طاهري

في الأسابيع القليلة الماضية، خرج المزارعون الأوروبيون إلى الشوارع في عواصمهم للإعلان عن موقف تمردي لم يتوقعه أحد. بعد أن تمتعوا بحياة مريحة على مدى عقود، بفضل الإعانات التي تقدمها حكوماتهم والسياسة الزراعية المشتركة للاتحاد الأوروبي، لم يكن من المتوقع أن يغزوا العواصم الكبرى برفقة أغنامهم وأبقارهم وجراراتهم الزراعية بسلسلة من الويلات.

أثيرت مسألة الأمن الغذائي للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية كأولوية قصوى لدول أوروبا الغربية التي تحاول إعادة بناء اقتصاداتها الممزقة. في ذلك الوقت، كان النقص العالمي في الغذاء لا يزال يعتبر تهديداً يلوح في الأفق، في حين أن المجاعات الواسعة النطاق أودت بحياة الملايين من الضحايا في جمهورية الصين الشعبية والعديد من الدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى، في حين أن دول أوروبا الغربية فككت تدريجياً أنظمة القوننة التي أنشئت خلال الحرب.

حتى الستينات من القرن الماضي، كانت الأسرة الأوروبية المتوسطة تنفق ما يقرب من 50 في المائة من دخلها على الأغذية، وهو ما قيّد من سوق السلع والخدمات المصنعة. وأصبح خفض تكلفة الغذاء أمراً حتمياً مع بحث الصناعات المعاد بناؤها عن أسواق متنامية.

أطلقت القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة سلسلة من المبادرات لإنشاء سوق حرة عالمية للسلع المصنعة في حين أبقت قطاعها الزراعي تحت الحماية.

عند دخول الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة حيز التنفيذ، أطلقت ما كان من المقرر تطويره ليصبح السوق الحرة العالمية للسلع الصناعية. في أثناء الحرب الباردة كان مفهوم «السوق الحرة» بمثابة الجوهر الآيديولوجي للديمقراطيات الرأسمالية في مواجهة مفهوم «الاقتصادات المخططة» الذي ناصره الاتحاد السوفياتي.

الواقع أن المحاولات الرامية إلى تحدي هذا المفهوم بشعارات مثل «السوق الاجتماعية»، التي دعا إليها الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني الفيدرالي (SPD)، و«الطريق غير الرأسمالية إلى التنمية الاقتصادية»، والذي ناصره ساسة العالم الثالث الناشئون، فشلت في منع «أنصار السوق الحرة» من قيادة العالم نحو ما أصبح «العولمة».

وغني عن القول إن هذه المفاهيم خدمت مصالح حفنة من الدول ذات الصناعات القادرة على المنافسة في الأسواق العالمية. حتى أواخر الخمسينات، على سبيل المثال، قامت 5 دول فقط بتصنيع السيارات القادرة على جذب العملاء في جميع أنحاء العالم. ويصدق القول نفسه على الأجهزة المنزلية والقسم الأعظم من الصناعات النسيجية. ويفضل مبدأ الميزة النسبية الدول ذات البنية التحتية الصناعية والثقافية.

لكن نظراً لأن الميزة النسبية قد تأتي بطرق مختلفة عديدة، فقد كان من المحتم أن يجد القادمون الجدد إلى السوق العالمية سبلاً لضمان الحصول على مقعد دائم على الأقل على القمة.

في اليابان، على سبيل المثال، جاءت الميزة النسبية من خلال حملة ضخمة لنسخ المنتجات الغربية في وقت كانت فيه القوانين الخاصة بالملكية الفكرية وحقوق الطبع والعلامات التجارية في مراحلها المبكرة، جنباً إلى جنب مع قوة عمل عالية الانضباط، ولكنها غير مكلفة بصورة نسبية.

وبعد جيل واحد، استخدمت الصين - ثم في وقت لاحق الهند والبرازيل وإندونيسيا - جنباً إلى جنب مع غيرها من «الدول الناشئة» الأصغر حجماً، ميزة العمالة الأرخص والتنظيمات الاجتماعية الأكثر مرونة لدخول السوق العالمية للسلع المصنعة.

أما عن الخدمات المالية فقد ظهرت سلسلة من الملاذات الضريبية في مختلف أنحاء العالم، وهو ما يعكس الاحتكار الذي تتمتع به الولايات المتحدة، وبريطانيا العظمى، وفرنسا، وألمانيا. ولكن بعد ذلك، اقتحمت اليابان، مع نمو حجم اقتصادها، وكذا الصين، بعد استعادة هونغ كونغ وماكاو، بوابة نادي الخدمات المالية.

على طول الطريق ظلت الزراعة منطقة محمية. كان هذا سبباً في إبقاء الأسواق المحتملة الأكثر ثراء مغلقة أمام المنافسة الخارجية. وحتى عندما كان المزارعون الأوروبيون ينتجون جبالاً من الأغذية الفائضة، استمر الاتحاد الأوروبي في منحهم إعانات، وفي وقت لاحق، خفض الإنتاج، وبالتالي كان من المربح، على مدى جيلين، أن يكون المرء مزارعاً نبيلاً في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية.

ثم جاءت الضربة المزدوجة في شكل توسيع قواعد العولمة لتشمل الزراعة من ناحية، وتطبيق قيود الدين البيئي الجديد من ناحية أخرى. مكّنت قواعد العولمة العديد من الدول من استخدام ميزتها النسبية من حيث المناخ، وثراء التربة، والعمالة الأقل تكلفة ومجموعة متنوعة من المنتجات للمطالبة بجزء متنامٍ من الأسواق الغربية التقليدية. وفي الوقت نفسه، كان لزاماً على المزارعين الغربيين أن يتعاملوا مع التكاليف المتزايدة المترتبة على التدابير البيئية التي اتخذتها جماعات الضغط تحت شعار «أنقذوا الكوكب».

كانت النتيجة أن المزارعين الغربيين في العديد من الحالات لا يستطيعون منافسة الواردات الأرخص من مختلف أنحاء العالم. إن مساعدتهم على البقاء في اللعبة من خلال إعانات أكبر يعني إما زيادة الضرائب وإما ارتفاع أسعار الغذاء في وقت يمثل أكثر من 12 في المائة فقط من الميزانية الحالية للأسرة المتوسطة. وإن الإعلان عن وقف تنفيذ التدابير البيئية المكلفة سوف يتطلب درجة من الشجاعة التي لا تستطيع النخبة الحاكمة الغربية الحالية أن تتحلى بها في ظل نظام مختطف من قبل جماعات الضغط، والتحالفات الهشة.

إن التخلي عن مبدأ الغذاء الرخيص يشكل معضلة مضاعفة بسبب الاتجاه التضخمي الحالي الذي يبدو من غير المرجح أن يتراجع في أي وقت قريب.

يواجه صناع السياسة الأوروبيون الآن حقيقة رآها أرسطو منذ أكثر من 2000 عام: كل نظام يفسد حين يُبالغ في تطبيق مبدأه الأساسي! وعليه، فإن الإفراط في السوق الحرة يقتل السوق الحرة، والعولمة المفرطة تشجع الحمائية.

وبينما يستعد المزارعون لغزو لندن، وباريس، وبروكسل، وروما، وأمستردام، ومدريد، وبرلين بالأبقار، والأغنام، والخنازير، والجرارات، يشعر صناع القرار بالذعر، ويقدمون تنازلات من شأنها أن تغضب جماعات الضغط البيئية، ومستوردي الأغذية، وسلاسل المتاجر الكبرى، ناهيكم عن الزبائن، من دون التصدي للمشكلة الرئيسية وبذل قصارى جهدهم.

بعبارة أخرى، فإن «السوق الحرة العالمية» المثالية تتطلب وجود حكومة عالمية، أو على وجه التحديد ما يحلم به البيروقراطيون الأوروبيون في بروكسل، ولكنهم يفتقرون إلى الشجاعة اللازمة للدعوة إليه علناً. إن العالم الحقيقي منقسم إلى دول قومية ذات حدود وثقافات وأنظمة قانونية مختلفة، ويقاوم النموذج الواحد المناسب للجميع والذي يسعى إليه أنصار العولمة المتعصبون.

المزارعون الأوروبيون المحتجون يطالبون بإيجاد «مجال متكافئ»، وهو الأمر الذي إذا ما نُظر إليه باعتباره نموذجاً مثالياً، فلا وجود له ولا يجوز له أن يوجد في كل معاملة إنسانية. إن مفهوم «الفوز للجميع» الذي يروجه المتعصبون للعولمة هو في الواقع مجرد أسطورة. فالمهم في الأمر هو أن مجمل العلاقات بين الدول القومية لا يميل إلى محاباة البعض بل يلحق الأذى بالآخرين على الأمدين المتوسط والبعيد.

إن حجم التحول الذي يُطالب به الاتحاد الأوروبي في استراتيجية «من المزرعة إلى المائدة» هائل حقاً. ويشمل ذلك خفض استخدام الأسمدة ومبيدات الآفات بنسبة 50 في المائة بحلول عام 2023، ومضاعفة الإنتاج العضوي، وتحويل 20 في المائة من الأراضي الزراعية الحالية إلى أراض برية، وفي الواقع، تخفيض النسبة المئوية للمزارعين إلى أقل من 3 في المائة.

تُظهر أغلب استطلاعات الرأي أن أغلبية الأوروبيين متعاطفون مع مزارعيهم. ولكن هل يستمرون في القيام بهذا إذا كان السعر أغلى وأقل تنوعاً من المواد الغذائية وتخلوا عن جزء من العقيدة البيئية؟

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المزارعون الغربيون على مفترق طرق المزارعون الغربيون على مفترق طرق



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان
 العرب اليوم - غارة إسرائيلية على معبر حدودي بين سوريا ولبنان

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
 العرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 14:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 العرب اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 07:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 11:10 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

مسيرات إسرائيلية تستهدف مستشفى كمال عدوان 7 مرات في غزة

GMT 17:28 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية

GMT 19:28 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة كاميلا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الآداب

GMT 06:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 09:52 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تشوّق جمهورها لمسرحيتها الأولى في "موسم الرياض"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab