تبادلية التقدم والتاريخ

تبادلية التقدم والتاريخ

تبادلية التقدم والتاريخ

 العرب اليوم -

تبادلية التقدم والتاريخ

بقلم : أمير طاهري

كان التقدم أحد أبرز الأفكار التي روج لها التنوير الأوروبي، أو ما يُعرف بعصر العقل في القرن الثامن عشر، والذي يتطور التاريخ الإنساني وفقا له عبر منحنى يبدأ من نقطة منخفضة وحتى نقاط أخرى آخذة في الارتفاع على نفس المنحنى.

وقد يناقش المرء، وربما يعارض، الطبيعة الدقيقة للنقاط «المرتفعة» و«المنخفضة» في نفس السياق.

غير أن أغلب طلاب التنوير يتفقون على أن «التقدم» له وجهان: أحدهما مادي والآخر ثقافي.

ويمكن إخضاع التقدم المادي للقياس بمقاييس مثل العمر المتوقع، ومتوسط صحة الناس، والظروف المعيشية المثلى من النواحي الملموسة مثل السكن، والمقدرة على التعامل مع الكوارث الطبيعية.

ومن الناحية الثقافية، يشتمل التقدم على الإبداع الأدبي والفني، والاكتشافات العلمية والتقنية، والسياسات التشاركية، وسيادة القانون.

ولكن هل من الممكن التساؤل بشأن التواجد الفعلي للمنحنى الذي يشير إلى التقدم الخطي؟

أليس من الممكن أن التاريخ الإنساني يمضي في مسار متعرج بالتناوب عبر النقاط «المنخفضة» و«المرتفعة» وفقا لبعض القوانين الغامضة؟

ومع تطبيق نظرية التقدم على «العالم الإسلامي»، فإنها تقاوم بالكاد تحديات نظرية «التعرج التاريخي» المنافسة.

وعلى الصعيد المادي، فإن التقدم الذي أحرزته كافة البلدان ذات الأغلبية المسلمة تقريبا خلال السنوات المائة الماضية يعد مذهلا.

فقبل قرن من الزمان، كان المسلمون يشكلون أقل من 4 في المائة من إجمالي سكان العالم. وفي عام 2017 الحالي، ارتفعت هذه النسبة إلى نحو 25 في المائة من تعداد سكان البسيطة. كما استفاد المسلمون كثيرا من التقدم المحرز في متوسط العمر المتوقع، والصحة العامة، ومستويات المعيشة المادية بما يتخطى أعظم أحلامهم قبل قرن مضى من الزمان.

أتذكر كيف كنت أشعر كصحافي شاب في عام 1970، وحالة الإحباط التي انتابتني بعد زيارة قمت بها إلى ما كان يُعرف وقتها بشرق باكستان. لم أكن أتصور قط، حتى في أسوأ الكوابيس التي هاجمتني، مقدار البؤس الإنساني الذي شاهدته هناك.

ولكن بعد مرور خمسين عاما، لا تزال بنغلاديش، وهي الدولة التي تمخضت عن رحم شرقي باكستان، دولة فقيرة وفق مختلف المعايير، عندما يتعلق الأمر باصطلاحات الفقر المدقع المتعارف عليها، بيد أنها لم تعد ذلك الجحيم المزري الذي كانت عليه الأوضاع في عام 1970، فلقد استفادت البلاد من التنمية الاقتصادية والتقدم المادي.

وعلى نطاق أوسع، ما زلت أتذكر الدول التصالحية والتي أصبحت فيما بعد دولة الإمارات العربية المتحدة. وبصرف النظر عن دبي، والتي كانت تملك منشأة واحدة فقط تشبه الفندق، لم يكن بأي من الإمارات الأخرى أي منشآت مماثلة. وفي سلطنة عُمان، كان يلزمنا أن نعيش في منازل خاصة من دون كهرباء ومياه جارية، وكنا نتغذى على لحم الماعز والأرز شبه النيئ. أما الآن، وبطبيعة الحال، تتفاخر كل من دولة الإمارات وسلطنة عمان بوجود بعض من أفخم المؤسسات السياحية في العالم على أراضيهما.

ويمكن مشاهدة ملاحظات مماثلة في كافة البلدان الإسلامية الأخرى، بما في ذلك موطني في إيران والتي بدأت في مغادرة حالة الفقر المدقع للعصور الوسطى، اعتبارا من ستينات القرن الماضي.

وفي عام 1973، استضافت طهران مؤتمرا حول «التحديث»، وكان تحت رعاية مشتركة من وكالة تابعة للأمم المتحدة ومعنية بشؤون قارة آسيا. وكان الإجماع وقتذاك على أن التقدم المادي سوف يؤدي إلى التقدم الثقافي، ثم وفي خاتمة المطاف، التقدم السياسي.

وبعد مرور ست سنوات، سقطت إيران في براثن طغيان رجال الدين، والذي نشأ حول مزيج من الأساليب الزائفة شبه الدينية والتي تماحك الطريقة الماركسية اللينينية في الحكم. وعلى نحو مفاجئ، تعرض الشعراء الفارسيون الكلاسيكيون للرقابة الصارمة، أو كما حدث في بعض الحالات حظر نشر دواوينهم بالكامل. والأسوأ من ذلك، منحت الطائفة الخمينية، التي كانت تستأثر بمطلق السلطة، لنفسها حق إصدار المحرمات، وأوامر الحظر، واختراع نسختها المفضلة من محاكم التفتيش، والطرد والإبعاد، وهي الآليات التي لا وجود لها بالأساس في الإسلام.

وفي عام 1960، عندما وصلت إلى بريطانيا للالتحاق بالجامعة هناك، فوجئت بأن «السيد المستشار»، وهو قاضي قضاة المملكة المتحدة، لديه قائمة سوداء من الكتب الممنوعة في ذلك الوقت الذي لم يكن هذا النوع من الحظر الأدبي معروفا حينها في إيران. وبعد أقل من عشرين سنة، لم تكن مثل هذه القوائم السوداء موجودة في المملكة المتحدة، في حين أن الجمهورية الإسلامية في إيران قد صاغت أطول قائمة سوداء للكتب في تاريخ الإنسانية.

والأسوأ من ذلك، تزعم الطائفة الخمينية أن أي مواطن لا يطيع المرشد الأعلى للثورة طاعة عمياء، فإنه يعتبر من «الكفار». وبطبيعة الحال، فإن المرشد الأعلى نفسه ليس بمعزل يحصنه من هذا التحريم المطلق. ففي يوم من الأيام، يمكن أن يناله أيضا «رذاذ التكفير»، تماما كما حدث مع الكثير من الشخصيات البارزة في النظام الخميني، بما في ذلك أربعة من الرؤساء الستة للجمهورية الإسلامية.

إننا في حاجة إلى مراجعة التاريخ للوقوف على كيفية عمل هذا المسار المتعرج للأحداث.

كان محمد ظفر الله خان، ثاني وزراء خارجية باكستان، ينتمي إلى الأقلية الأحمدية، وكان يشغل منصب أمير الطريقة، أو زعيمها الديني، لفترة من الزمن. ومع ذلك، لم يمثل انتماؤه الديني مشكلة من المشاكل قط. أما اليوم، يتعرض أعضاء الطريقة الأحمدية للملاحقة والاغتيال على أيدي المتطرفين الإسلامويين ليس في باكستان وحدها، وإنما في بريطانيا كذلك. ولم يكن أحد في باكستان يعبأ بأن الأب المؤسس للبلاد أو «أبو الأمة»، محمد علي جناح، كان سياسيا علمانيا. ولكن اليوم، فإن صفة «العلمانية» قد تسفر عن مصرعك بصورة من الصور.

وفي إيران إبان حكم الشاه، لم يكن السعي وراء العمل السياسي يلاقي أي عقبات طائفية، وكان المسلمون السنة يشغلون مناصب رفيعة في الحكومة، كوزراء، ومحافظين، وسفراء، وقادة عسكريين. (ولقد كان وزير العدل في آخر حكومة خدمت الشاه محامياً ومسلماً سنياً). أما اليوم، وبرغم كل شيء، يشغل مسلم إيراني سني واحد منصبا رفيعا في الحكومة الحالية، وهو سفير إيران لدى فيتنام، أي الدولة ذات العلاقات المحدودة للغاية مع إيران.

وفي إندونيسيا، والتي فيها أكبر عدد من السكان المسلمين في العالم بعد الهند، كان الإصلاحيون أمثال عبد الرحمن وحيد ونورشوليش ماجيد يتمتعان بجمهور واسع وحريات كافية، حتى في ظل الحكم العسكري الديكتاتوري للبلاد، في التعبير عن آرائهما في سوق الأفكار المفتوحة. أما اليوم، فإن أغلب أعمالهما محظور نشرها وتداولها، وتتعرض الندوات التي تناقش أفكارهما للهجوم على أيدي المتطرفين الإسلامويين الجدد الذين يزعمون أنهم بإمكانهم تحديد مَـن هو المسلم من غير المسلم في البلاد.

وفي تركيا، فإن النخبة العثمانية الجديدة لا تسمح قط للحلفاء الإسلاميين السابقين، تحت قيادة فتح الله غولن، ولو بمساحة ضئيلة للغاية من المعارضة.

وماذا عن القتل الجماعي لأكثر من 400 فرد من أتباع الطرق الصوفية في أحد مساجد سيناء المصرية الأسبوع الماضي؟ أجل، في مصر، والتي كانت عبر تاريخها الإسلامي الطويل أحد مواطن الطرق الصوفية، ومسقط رأس الطرق «البديلة» لفهم الإسلام والتعايش معه؟

مصر، التي وصفها «السنائي» الشاعر الفارسي الصوفي العظيم بقوله: «في مصر، تنتعش أرواح المؤمنين بسنا مئات الورود والأزهار».

وبعد نحو ألف عام أخرى، صار هناك أشخاص في مصر لا يتحملون مجرد وجود عطر زهرة واحدة، مع إصرارهم البغيض على أن شوكاتهم العنيفة لا بد أن تغزو الأرض.

فهل كانت نظرية التنوير والتقدم صحيحة؟ ويمكن أن نجد في مصر اليوم ألف زهرة فواحة، بدلا من شوكة واحدة مضمخة بالدماء؟

اليوم، نحن أكثر ثراء، وأفضل تعليما، وأحسن صحة من أي وقت مضى في تاريخ الإسلام. وبرغم ذلك، فإننا نواجه المزيد من الجهل، والتعصب، والتطرف، والعنف من أي زمن مضى.

يتذكرنا الآخرون الآن مع كل مرة يُطلب من بعضهم خلع أحذيتهم في المطارات، وعندما يشاهدون المتطرفين الذين يمزقون حناجر الناس بخناجرهم على شاشات التلفاز.

لذلك، ربما انتهى بنا المطاف إلى مسار متعرج غير مستقيم.

وإن كان الأمر كذلك، فالسؤال المطروح يدور حول: كيف نتلمس طريقا للخروج من المنحنى المهلك الحالي؟

arabstoday

GMT 04:48 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

الانتخابات الأميركية والألبوم العائلي القديم

GMT 00:22 2024 الجمعة ,28 حزيران / يونيو

بناء الجدران يصل إلى إيران

GMT 00:01 2024 الجمعة ,21 حزيران / يونيو

فرنسا: نحو عام من الضباب؟

GMT 00:15 2024 الجمعة ,14 حزيران / يونيو

أوروبا بين الأمل والخوف

GMT 00:49 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

تداعيات خطة بايدن لوقف الحرب

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تبادلية التقدم والتاريخ تبادلية التقدم والتاريخ



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 20:30 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن إسقاط مسيرة تحمل أسلحة عبرت من مصر
 العرب اليوم - الجيش الإسرائيلي يعلن إسقاط مسيرة تحمل أسلحة عبرت من مصر

GMT 18:57 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

العين قد تتنبأ بالخرف قبل 12 عاما من تشخيصه
 العرب اليوم - العين قد تتنبأ بالخرف قبل 12 عاما من تشخيصه

GMT 12:55 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح
 العرب اليوم - دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات
 العرب اليوم - المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 06:06 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

راجعين يا هوى

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 13:18 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

قطر ترحب بوقف النار في لبنان وتأمل باتفاق "مماثل" بشأن غزة

GMT 01:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يستهدف مناطق إسرائيلية قبل بدء سريان وقف إطلاق النار

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab