عادت الجوقة الداعية إلى تقسيم العراق إلى الصدارة مع استمرار حملة استعادة الموصل من تنظيم داعش. ولتلك الجوقة تاريخ طويل، وترددت دعواها في كثير من المناسبات كلما حلت على العراق، في وضعه الحالي كدولة قومية، أزمة من الأزمات. والأمر المختلف هذه المرة أن الأصوات التي ينبغي في المعتاد أن تكون خاضعة لإشراف ومسؤولية الحكومة العراقية صارت تُ ً سمع أيضا داخل تلك الجوقة.
ً وأحد تلك الأصوات صدرت من أنقرة التي تعتبر معاهدة لوزان مبررا لأن يكون لها الحق في المشاركة في عملية تحرير الموصل، ولما أبعد من ذلك؛ المشاركة في مستقبل العراق ووحدة أراضيه. ومن شأن هذه المزاعم أن تضع تركيا على منحدر زلق يمكن أن يهبط بها في مشكلات لا حصر لها مع جميع جيرانها.
ً ولقد ألهمت المزاعم التركية بعض الأصوات المثرثرة في طهران بشأن معاهدة أخرى جدا قديمة، وهي معاهدة قصر شيرين التي منحت الإمبراطورية الصفوية «حق الإشراف» على المزارات الشيعية في بلاد ما بين النهرين. ومن المؤكد عدم وجود سبب يدعو إلى رفض العرض التركي لمساعدة الحكومة العراقية في الحملة العسكرية الحالية التي تتضمن أكثر الدول من أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بالإضافة إلى الدولة المفاجئة، وهي الجمهورية الإسلامية في إيران. ومع ذلك، فإثارة المطالبات القديمة فيما يتعلق بالمعاهدات القديمة من أضمن السبل لدى تركيا لإثارة مزيد من الشكوك بشأن نياتها الحقيقية.
إن الحملة العسكرية لاستعادة الموصل هي خطوة على طريق استعادة وحدة أراضي العراق وتعزيز سيادته الوطنية. ولذلك، فإن أي تلميح بأن عملية تحرير الموصل سوف تؤدي إلى تقسيم العراق يعتبر من التناقضات المباشرة لأهداف الحملة المعلنة.
ً وما ينبغي على تحرير الموصل أن يفعله هو تقريب المواطنين العراقيين سوي ً ا مرة أخرى، وأن يكونوا شعبا ً موحد ً ا رغم تنوعه واختلافه، ذلك الذي يحارب من أجل القضية المشتركة بينهم جميعا. فالموصل ليست قضية انتصار الشيعة على السنة أو العرب الذين يؤكدون سيطرتهم على الأكراد. ولا يمكن أن تكون ذريعة للقوى الخارجية، لا سيما تركيا وإيران، بأن تلقي بثقلها وتطالب بحق الزعامة الإقليمية. سوف يكون لعملية تحرير الموصل معناها الحقيقي إن كانت ترمي إلى عودة العراق باعتباره دولة مستقلة ولاعب ً ا رئيسي ً ا وكبيرا
المنطقة.
ليس هناك من شك في أن منطقة الشرق الأوسط بأسرها تشهد أسوأ أزماتها منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ً واستعادة الاستقرار المستدام لن يكون أمر ً ا هينا، لا سيما في ظل الانقسامات الطائفية القديمة التي أعيد تنشيطها بغية تحقيق غايات سياسية معينة. ومع ذلك، فإن نقطة الانطلاق لأي جهود تهدف إلى استعادة الاستقرار والمحافظة على النمط الذي اتخذت دول ما بعد الخلافة العثمانية في المنطقة وضعها وفقا له لما يربو على قرن من الزمان. والنهج التعديلي الذي يدعو إلى المطالبة بإعادة رسم الحدود ليس إلا مجرد إضافة إلى عنصر آخر من عناصر عدم الاستقرار للنظم السياسية غير المستقرة بالفعل.
إن التأملات التركية الحالية بشأن معاهدة لوزان تزيد من الحيرة، بسبب أنها تقوم على أساس مقاربة الانتقاء والاختيار، حيث تطالب أنقرة بحق الإشراف على الموصل وكركوك، لكنها تتغافل عن السياق الأوسع للمعاهدة ذاتها. وقعت معاهدة لوزان في عام 1923 ،ودخلت حيز التنفيذ في 1924 ،وهي تدور بالمقام الأول حول الاعتراف بالجمهورية التركية بأنها الوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية في الحدود الجديدة.
ولقد خضع معظم الموقعين على المعاهدة لتغييرات كبيرة في أوضاعهم الخاصة، حيث إن الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية لم يعد لهما وجود. ولقد تحولت الإمبراطورية اليابانية إلى دولة ديمقراطية وليست لها مطالبات في الشرق الأوسط. ولقد تحولت الممالك الإيطالية واليونانية والرومانية إلى دول هي الأخرى، ولها في أحسن الأحوال مصالح هامشية في المنطقة. ً ووفقا للمعاهدة، فإن الدولة التركية الجديدة قد تخلت عن جميع مطالبها في مصر والسودان والحجاز وعسير واليمن، وبالطبع، في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام التي تتألف من سوريا ولبنان وفلسطين، وما أصبح في وقت لاحق المملكة الأردنية. ً كما ألغت المعاهدة أيضا معاهدة أوتشي أو معاهدة لوزان الأولى في عام 1912 ،وفيها طالب العثمانيون بسلطانهم على أراضي ليبيا. ً تركت معاهدة لوزان عددا من القضايا معلقة، بما في ذلك مصير هاتاي، وهو الإقليم المتروك للسيطرة الفرنسية، لكن تركيا قامت بضمه إلى أراضيها في وقت لاحق. كما ترك مصير المضايق، ذات الأهمية الاستراتيجية لمعظم القوى الأوروبية، لتنظمه معاهدة مونترو.
ولقد وضعت المعاهدة لكي تكون بدلاً من مشروع اتفاقية سايكس بيكو، التي وقعت عليها روسيا قبل خروجها من الحرب نتيجة لاندلاع الثورة البلشفية. وفي حقيقة الأمر، لم تصادق الحكومات البريطانية والفرنسية والإيطالية قط على اتفاقية سايكس بيكو، مع أنها هي التي أمرت بصياغة مشروع الاتفاقية، ناهيكم بتنفيذ بنودها على أرض الواقع، كما يقول التراث الشعبي السائد في مختلف أصقاع الشرق الأوسط.
تم التوقيع على معاهدة قصر شيرين في عام 1639 بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية بعد عقود من الحروب الدامية للسيطرة على بلاد ما بين النهرين والقوقاز. ولقد حلت محل معاهدة أماسيا لعام 1555 ،واعترفت بملكية الإمبراطورية العثمانية ما يعرف الآن بالعراق وسوريا. وفي مقابل ذلك، اعترف الجانب العثماني للصفويين بملكية أرمينيا، أو ما يعرف الآن بجمهوريتي أذربيجان، وجورجيا، وما يعرف ً الآن أيضا بجمهورية داغستان الروسية
وحقيقة أن الأطراف الموقعة على المعاهدة لم يعد لها وجود طبيعي وحقيقي بالشكل الذي كان إبان التوقيع ً على المعاهدة يكفي لإقناع أي إنسان بأن مستقبل الشرق الأوسط لا يمكن تصوره استنادا إلى معاهدات الماضي البعيد. ليست هناك الآن إمبراطورية عثمانية أو صفوية على الرغم من أن العثمانيين الجدد ً والصفويين الجدد ليسوا إلا غيضا من فيض.
ً وما ينبغي على كل شخص، خصوصا بين العثمانيين الجدد في أنقرة والصفويين الجدد في طهران، أن يدركه هو أننا نعيش الآن في عالم من الدول القومية في حقبة ما بعد الإمبريالية. والإمبريالية ذاتها، في أوجها وذروة قوتها، كانت عبارة عن لعبة خاسرة لكل الأطراف المعنية بها، حيث لا تزال القوى الاستعمارية السابقة تسدد ثمن الاستعمار القديم في صورة المهاجرين غير المرغوب فيهم القادمين من مستعمراتهم السابقة، وفي صورة الإرهاب والصورة العالمية المشوهة.
إن إحياء المطالبات القديمة بموجب المعاهدات القديمة سيكون له تأثير مرتد على المطالبين بها أنفسهم.
والتفسير الحرفي لنصوص معاهدة لوزان بكل ما تحمله من تعقيدات، وهي في بعض أحيانها نصوص متناقضة الجوانب، من شأنه أن يهدد سلامة أراضي الجمهورية التركية نفسها. ومعاهدة قصر شيرين، إن تم ً إحياء نصوصها هي الأخرى، من شأنها أن تشكل تهديد ً ا خطيرا على الموقع الإيراني الحالي كدولة قومية.
إن تقسيم العراق وسوريا وإيجاد مناطق النفوذ الجديدة، أيا كان ما يعنيه ذلك على أرض الواقع، بالنسبة للقوى الانتهازية الدولية، بما في ذلك روسيا، في الشرق الأوسط، ليس إلا وصفة عقيمة من وصفات التوترات والصراعات القميئة التي لا تنتهي.
ً حسن تركيا وإيران صنعا بعدم اللعب في عش الدبابير لأكثر من ذلك.