بقلم - أمير طاهري
في الأيام القليلة القادمة، سوف نشهد موجة عارمة من الاحتجاجات الدبلوماسية التي امتدت عبر جنيف وبروكسل، في الوقت الذي يحاول فيه قادة الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا خلق انطباع بأنهم يعرفون ما يجري، وما يجب القيام به إزاء ذلك.
ومن المقرر بدء الماراثون الدبلوماسي يوم 9 يناير (كانون الثاني) بقمة أميركية - روسية، الأمر الذي حشد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين له مزيداً من الزخم منذ أسابيع كحدث كبير. وسيتبعه لقاء بين روسيا و«الناتو» في 12 يناير، لإحياء عملية بدأت قبل نحو 30 عاماً، وتخلوا عنها في العقد الماضي. ثم تأتي الباقة الأخيرة مع مؤتمر لجميع الدول الأعضاء في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، مع ذكريات «مهرجان المحبة» المعروف باسم «اتفاقات هلسنكي».
والسؤال القائم هو: ما الذي يتوقع كل مشارك أن يجنيه من ممارسة عاجلة، تتسم بكثير من الإثارة، وتفتقر إلى جدول أعمال واضح؟
يقول الروس إنهم يسعون للحصول على «ضمانات أمنية»، أياً كان ما يعنيه الأمر. ويتحدث الأميركيون والأوروبيون عن «إقناع بوتين بعدم غزو أوكرانيا»، وهم يدركون أنه لا يريد ولا يستطيع فعل ذلك.
ويسعى بوتين للعودة إلى لعبة القوة التي تشكلت في القرن العشرين، عندما بدأت مؤتمرات القمة لأول مرة بمن يُسَمون «الخمسة الكبار»، وهم الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن: الولايات المتحدة، وبريطانيا العظمى، وفرنسا، والاتحاد السوفياتي، والصين ما قبل الشيوعية.
ثم تحولت إلى «الأربعة الكبار» مع استبعاد الصين، قبل أن تصبح «الثلاثة الكبار» عندما قررت فرنسا تحت قيادة الجنرال ديغول التحول إلى «السمت التام» أي التوجه نحو الهدف. ثم بعد ذلك نُحيت بريطانيا العظمى جانباً، إثر خسارتها الإمبراطورية وانحدارها الاقتصادي، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ثنائي «القوى العظمى».
هذا هو «الثنائي» الذي يأمل بوتين في عودته.
هذا هو ما يتحدث بشأنه: «إثارة القضايا ذات الاهتمام العالمي»، في قمة مع الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يأمل من ناحية أخرى تقليص النفوذ الروسي كقوة متوسطة الحجم التي قد تسبب إزعاجاً بين حين وآخر، ولكن من غير الممكن أبداً أن تصبح شريكاً ندياً في الزعامة العالمية.
ويدور التهامس في موسكو حول أن بوتين سوف يحاول إغواء بايدن بعدد من الوعود. ويشمل ذلك إقناع إيران بإعادة التصديق على «الاتفاق النووي» الذي وقعه أوباما، والذي أدانه دونالد ترمب باعتباره خدعة. وقبول طهران لنسخة جديدة تقدمها الولايات المتحدة، سيمنح بايدن أول انتصار دبلوماسي يحققه.
قد يكون بوتين مبالغاً في نفوذه مع ملالي طهران؛ لكنه بالتأكيد في وضع يخوِّل له إقناعهم بخفض وتيرة سلوكهم العدائي، الأمر الذي يمكنه المساعدة في تهدئة التوترات في العراق ولبنان واليمن؛ حيث يلعب الملالي دوراً بارزاً في الاضطرابات عبر وكلائهم.
وبعد ذلك، يعرض بوتين أيضاً التعاون في سوريا، كجزء من خطة أوسع لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.
ومن بين الوعود الأخرى: ترويض رئيس بيلاروسيا - لوكاشينكو - وتخفيف حدة الصراع في أوكرانيا.
في المقابل، يريد بوتين رفع العقوبات، والتعهد بعدم تمديد مظلة حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا، والقبول التدريجي بضم شبه جزيرة القرم وأوسيتيا الجنوبية، والاحتلال الفعلي لأبخازيا، والوجود العسكري الروسي فيما وراء القوقاز، باعتباره أمراً واقعاً لا رجعة فيه.
تكمن المشكلة في آمال بوتين بالعودة إلى الوضع السابق، أي توازن القوى الذي لم يعد له وجود في الواقع، ويبدو أقرب إلى الأوهام من كونه استراتيجية جادة؛ إذ لم يعد هذا نظاماً ثنائي القطبية؛ حيث قد يكون للاتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي تأثيره المباشر على الأزمات الدولية.
ونحن نعلم كيف أقنعت الولايات المتحدة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، بوقف حرب السويس، ببضع مكالمات هاتفية.
ويروي يفغيني بريماكوف، السياسي السوفياتي البارز الذي لعب أدواراً متعددة أثناء الحرب الباردة، في مذكراته، كيف طار إلى القاهرة في يونيو (حزيران) 1967، كي يخبر الزعيم المصري جمال عبد الناصر بقبول وقف إطلاق النار مع إسرائيل. وقد وافق ناصر فوراً على طلبه، على الرغم من أنه بوصفه رجلاً عسكرياً، لا بد من أنه كان يعلم أنه ما من حرب يتم كسبها فعلياً إلا إذا تقبل جانب واحد الهزيمة.
في العالم القديم، يمكن لبوتين الذي يأمل في إحياء الولايات المتحدة، أن يعتمد على دعم غير مشروط تقريباً من حلفائها الأوروبيين واليابانيين وغيرهم. ولم يعد هذا هو الموقف الآن؛ حيث تحاول حتى القوى الأوروبية الصغيرة، ناهيكم عن العرب وحلفاء آسيويين آخرين، تشكيل الخيارات السياسية الخاصة بهم على أساس كل حالة على حدة. وهذا هو السبب الذي يجعل تركيا التي لا تزال عضواً في حلف شمال الأطلسي، تتقلب في اتجاهات عدة، في حين تدعو حفنة من بلدان الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ألمانيا، إلى التهاون في التعامل مع موسكو.
وفي العالم القديم نفسه، كان بوسع الاتحاد السوفياتي المخاتلة بمزاعم النفوذ في الصين الشيوعية. وهذا أيضاً لم يعد صحيحاً في واقع الأمر؛ حيث تكون الصين في ماراثون الأسبوع المقبل الدبلوماسي، هي أبرز الملفات المثيرة للمشكلات والاضطرابات.
وفي حين أن مناورة عودة بوتين إلى المستقبل تهدف إلى إحياء القرن الماضي، فإن نظيره الصيني الرئيس شي جينبينغ يتخذ من إمبريالية القرن التاسع عشر نموذجاً لاستعراض القوة العالمية. عبر صياغة سرد قومي جديد، يذكِّرنا بالنزعة القومية البريطانية في أوج بناء الإمبراطورية، يتحدث شي عن امتلاك أسطول بحري من المياه الزرقاء، مع ترسانة نووية فائقة الحداثة، ثم التخطيط لشبكة من القواعد على غرار «محطات الفحم» التي صنعها البريطانيون لإمبراطوريتهم في مختلف أنحاء العالم.
في الأسبوع الماضي، زار وزير الخارجية الصيني وانغ يي، أولى هذه القواعد في جيبوتي، وشجع على القيام بعروض للاستحواذ على قواعد أخرى في إريتريا وجزر القمر. كما أنشأت بكين العديد من «المنصات» على جزر بحر الصين الجنوبي، وتعمل على تأمين قاعدة لها في «جزر سليمان» في المحيط الهادي.
ولعل شي يفكر في أن كل «محطات الفحم» والقواعد المتعددة، لم تنقذ الإمبراطورية البريطانية، في حين لم تنقذ أكبر ترسانة نووية في التاريخ الاتحاد السوفياتي من الانهيار.
ومن جانبهم، يعود الأوروبيون، على الرغم من تشبثهم الشفهي بوحدة الاتحاد الأوروبي، إلى القرن السابع عشر ومعاهدات «وستفاليا» مع التأكيد على «كلٌّ يخدم نفسه»، وفي بعض الحالات ينعكس المزاج الشوفيني في عديد من المجتمعات الأوروبية، والذي تجلى بشكل كبير في الخروج البريطاني.
وماذا عن الولايات المتحدة؟ إذا كان المزاج الانعزالي الحالي كثيفاً كما يزعم البعض، فإن الولايات المتحدة تحاول العودة إلى العصور القديمة، عندما كان مبدأ «مونرو» يوفر الحماية لها ضد متاعب يتسبب فيها آخرون. فربما نشهد ما سماه الفيلسوف النهضوي الفرنسي ميشال دي مونتان «المخاتلة» أو السير المخالف، أو تناول كافة المشكلات من دون حل أي منها.
مع وجود عديد من اللاعبين الذين يحاولون التعامل مع مشكلات القرن الحادي والعشرين، بحلول تشكلت في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، من غير المرجح أن نشهد ظهور عالم جديد في أي وقت قريب، وبالتأكيد ليس من خلال الرهانات الدبلوماسية في الأسبوع المقبل.