منذ الحرب العالمية الثانية، لم يشهد التدخل الدولي والإقليمي في شؤون العالم العربي، المدى الواسع والعميق الذي وصل إليه، إثر انفجار الانتفاضات العربية في عام 2011. الطريف في المشهد أن التدخل الدولي اليوم يتناقض مع مثيله في القرن الماضي، حيث كان شبه مرسوم. وموحداً سياسياً وآيديولوجياً، فيما هو اليوم متناقض كلياً. فلكل دولة كبرى موقف. ورأي. وسياسة. ولكل دولة إقليمية مصلحة. وخطة. ومرتزقة.
هذه التناقضات الدولية والإقليمية انعكست سلباً على الأنظمة والمجتمعات العربية. كان النداء العربي خلال الحرب العالمية داعياً إلى «وحدة قومية». وبدهاء بريطاني، على لسان ونستون تشرشل وأنطوني إيدن، تحول النداء إلى «تضامن» عبَّر عنه قيام جامعة «دول» عربية هشة تؤطر دولاً «مستقلة». ذات سيادات. وكيانات. وحدود. وأناشيد... باعدت بين أشقاء الجوار والمصير.
الصراعات العربية تجاوزت اليوم شعار التضامن بين الدول، لتصل إلى تفكك واهتراء في نسيج أمة تمتد من المشرق إلى المغرب، بحيث بات القتل الجماعي والاقتتال مجرد أرقام، لا تثير أصفارها الأربعة أو الخمسة حزناً في النفس. أو تعاطفاً بين أشقاء. ومعها استفحل التدخل الدولي. والتورط الإقليمي، بحجة بذل المصالحة البريئة بين الأنظمة المتشاجرة. والوساطة الحميدة بين المصالح المتهادنة والمتناحرة.
لهذا الهراء الدولي وسائله في إقناع العرب، بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان. فهناك الدبلوماسية الممهدة للقاءات الساسة والزعماء. وهناك التصريحات المتفائلة التي تنام بعدها على حرير الأحلام. وتفيق، على دوي التفجيرات الانتحارية.
وهناك المسارح الدموية المتنقلة، لإقناعك بأن بالإمكان إقامة مناطق آمنة إلى جانبها، بحراسة الشرطة الروسية. وهناك الطيران الغربي المنتقل من فوق الموصل، إلى فوق الرقة لإبادة عرب المدينة، قبل تسليمها إلى أكراد القامشلي والحسكة، بموافقة «المعلم وليد»، رسام خرائط التقسيم الكرتونية.
وهناك الطيران الروسي والسوري المنتقل من فوق مسرح دير الزور، إلى فوق مسلخ إدلب الذي سيُباد فيه عرب المحافظة.
من البديهي، أن يلجأ المتدخلون والمتورطون في شؤون العرب، إلى الإعلام لدعم مواقفهم ووجهات نظرهم. والإعلام لم يعد مجرد صحافة ورقية، كما تعتقد الرقابات الحكومية المتشددة، يوماً بعد يوم على الصحافة العربية، إنما هو أيضاً الإعلام الإلكتروني المتحرر من هذه الرقابة.
أين أميركا التي حلت محل أوروبا في فرض ثقافتها الشعبية الهوليوودية على العالم. وأتبعتها بتقديم إعلام ورقي جديد ومبتكر في تفتيت وتبسيط المعلومات. والتعليقات. والتفسيرات السياسية؟ ظل الالتزام بالحياد والأمانة الصحافية قائماً، إلى أن فقدت هذه الصحافة جانباً كبيراً منها في الانحياز لإسرائيل.
أود أن أقدم هنا مثالاً على مجانية الحقائق والوقائع وإخفائها في الصحافة الأميركية، في قضية واحدة فقط: الأزمة الكردية الراهنة، كما تقدمها وتعالجها إحدى كبريات الصحف السياسية الأميركية. فهي تقول إن الأكراد هم الأمة الوحيدة في العالم التي لم تنل حقها في الوحدة القومية والسياسية. وتخصهم وحدهم بأنهم ضحايا القتل. والإبادة. والحرمان في العراق، مستشهدة بمجزرة حلبجة الكيماوية التي قتل فيها خمسة آلاف كردي.
الحقائق والوقائع تثبت أن العرب هم الأمة الكبيرة الوحيدة في العالم التي لم يسمح لها باستكمال وحدتها السياسية والقومية، فيما تقدم أميركا للأكراد الحماية. وعمدت إلى عسكرتهم وتجنيدهم في حربها ضد إرهاب «داعش» و«القاعدة» في العراق وسوريا، فانتفخ البالون الكردي، بحيث بات من الصعب احتواؤه. ولولا هذه الحماية والتشجيع، لما أقدم مسعود بارزاني على فرض الاستفتاء غير المناسب، في الوقت غير المناسب، متسبباً في احتمال نشوب نزاعات وحروب داخل العراق. ومع الدول المجاورة.
قتل في حروب صدام البعثية أكثر من مليون عراقي عربي (من سنة وشيعة)، في حين لا تذكر الصحيفة واقعة استعانة مسعود بارزاني بجيش صدام، لإنقاذ عاصمته أربيل، من قوات خصمه جلال طالباني (صار رئيساً للعراق بعد صدام) التي شقت طريقها إلى المدينة، في حرب أهلية كردية قتلت وجرحت ألوف الأكراد، بعد حصول كردستان على «حكم ذاتي» مستقل في التسعينات.
ولا تنسى الصحيفة أن تشير إلى احتلال الأكراد لمنطقة كركوك النفطية (2014). وتحمّل بغداد مسؤولية وقف إرسال حصة كردستان من الميزانية الفيدرالية. الواقع أن الكرد استغلوا هزيمة الجيش العراقي في الموصل، وقيام الدولة «الداعشية» المزعومة، لاحتلال كركوك. وحرمان العراق من موارد أكبر بئر نفطية في العالم، تنتج 400 ألف برميل من النفط يومياً، علماً بأن عدد العرب والتركمان يصل إلى 60 في المائة من سكان المحافظة والمدينة.
يبقى السؤال العراقي الموجه لمسعود بارزاني: أين ذهب المورد المالي الهائل الناجم عن تصدير الأكراد نفط كركوك إلى العالم عبر تركيا؟ الحقيقة الوحيدة التي تعترف بها الصحيفة أن الكرد وسعوا مساحة كردستان بمعدل 40 في المائة، باحتلال المناطق العربية. والتركمانية. والآشورية - الكلدانية.
تستعين الصحيفة بتصريحات وأقوال مختلفة. فتسمح للدبلوماسي الأميركي بيتر غالبريث الذي سبّب متاعب لأميركا في أفغانستان وباكستان، بصياغة الاستفتاء الكردي بشكل استفزازي لعرب العراق: «هل تريد أن تكون جزءاً من بلد ارتكب مجزرة ضدك؟».
أما هوشيار زيباري الذي شارك في إجراء الاستفتاء، فقد قال إن «العراق قد تهدم، بسبب اصطفاف حكومة بغداد الشيعية إلى جانب إيران». قد يكون ذلك صحيحاً. لكن لماذا صمت هوشيار عن ذلك، عندما كان وزيراً للخارجية ثم للمالية في حكومة بغداد؟! بل لماذا صمت الكرد الذين احتلوا مناصب رفيعة في الإدارة العراقية، بينها رئاسة الدولة. ورئاسة أركان الجيش. وبعضهم شارك في التصويت في الاستفتاء؟!
التضليل الإعلامي لا يقتصر على ممارسة أميركية وكردية له. فهو يتسلل أيضاً إلى صميم الإعلام العربي، تحت شعار الديمقراطية وذريعة «حقوق الإنسان». فتحت الصحافة العربية صدرها لكُتّاب ومثقفين أكراد ناطقين بالعربية، ليسجل بعضهم تهجمه على العرب. واستفزازهم بتغييب تاريخهم.
شعرت بالحزن والألم عندما سمعت إذاعة محلية عربية في باريس، تقدم باحتفاء (25 سبتمبر/ أيلول الماضي) شخصاً على أنه «مثقف كردي مستقل» لم يسبق أن سمعت به. فإذا به يزعم أن تاريخ الشرق الأوسط كان كردياً منذ قيام دولة «كردية» في الألفية الأولى قبل الميلاد! الخطر في هذا التضليل أنه موجه لسبعة ملايين عربي في فرنسا، لا يعرفون الكثير عن تاريخ الأمة العربية القديم والحديث.