هل نستطيع أن نتجاوز شؤم الحاضر العربي، لنصنع رؤية مستقبلية متفائلة لمصير الأمة العربية؟
في هذا التقييم المختصر للوحة العربية الراهنة، قد أبدو متشائماً. لكني أرى نفسي موضوعياً. فالتشاؤم المحدود فيه قدر كبير من الواقعية في التقييم. وفيه حافز لإرادة التغيير. وبالتالي لا يمكن القفز إلى التفاؤل، بتطييب الخاطر. والربت على الأكتاف المتواكلة والبطون الخاوية. والقول: «معلش. بكرة أفضل من اليوم».
ما زال العقل والمنطق العربيان عاجزين عن مراجعة الذات. وعن تفكيك. وتفتيت. وتجزئة الكارثة، إلى أزمات يمكن بحثها. وإيجاد حلول لها، بهدوء العقلانية. وتحييدها قدر الإمكان عن التأثر بضغوط وعواطف قوى الشارع السياسي. والشعبي. والديني.
وإذا كان لي كعربي أن أقدم رأياً في قضية الانتماء، فإني أسأل عما إذا كانت هناك أمة عربية تجمعنا فيها، على الأقل، ثقافة واحدة. ووطن ترابي واحد. وكيانات سياسية شقيقة في الجيرة. والألفة. والعاطفة؟
الواقع، فالثقافة في إطارها اللغوي المحدود. وفي معناها الإنساني كإنتاج إبداعي تعددي ومتبادل، تجمع نخباً ثقافية في كل بلد عربي من الخليج إلى المحيط. وهي تتفاعل وتتحاور وطنياً في البيئات المحلية. وتتواصل قومياً، من خلال الصحافة. والإعلام الإلكتروني. والمؤتمرات. والمنتديات. ومراكز البحوث.
الدولة العربية تبنَّت، بجدية وهمَّة، في القرن العشرين، نشر ثقافة لغوية واحدة. لكنها أخفقت، لأسباب دينية وآيديولوجية، في إرساء نظام تربوي وتعليمي موحد، ينشئ الأجيال المليونية المتعاقبة، على شخصية روحية ونفسية متقاربة تتجاوز الحدود. والسدود. والكيانات. والانتماءات الضيقة.
التحرر العربي من الاستعمار والتخلف تم على أساس إنشاء كيانات مستقلة ذات سيادات معترف بها دولياً وإقليمياً. لكن تقديم الاستقلال الوطني على قضية الوحدة القومية، حال إلى الآن، دون التقدم خطوة واحدة، نحو ترسيخ الاتحادات الفيدرالية. والمجالس التعاونية، بل قوَّض التجربة الوحدوية بين مصر وسورية.
وبدلاً من أن تكون «الانتفاضة» خطوة عاقلة للاقتناع بالوحدة، فقد أدت إلى هز الثقة بـ«الدولة/ الشعب». فانهارت في سورية. والعراق. واليمن. وليبيا. وتتعرض لضغوطات وعوامل حتٍّ وتعرية في السودان. ويجري إنقاذها بأعجوبة في فلسطين، برعاية مصرية شديدة الشهامة.
لكن الثقافة، بمعناها الآيديولوجي الأوسع، كدين. وحضارة. وتراث. وأسلوب حياة اجتماعية. ومزاجية نفسية متناسقة، لم تأخذ بُعدها العميق والواسع في البيئات المحلية، بحيث تخدم قضية الوعي الشعبي بالانتماء القومي. مثلاً، تم تفتيت وتجزئة الإسلام كدين أممي، إلى طوائف ومذاهب، تحت تأثير عنصري إقليمي. هو فارسي حيناً. وكردي حيناً. وتركي حيناً.
كان النزوع الفارسي العنصري المتستر بإرهاب ديني، استفزازياً في اليمن. والخليج. وهجومياً متدخلاً بالمذهب في العراق. وعسكرياً مخترقاً للغالبية (السنية) العربية في سورية. وللطائفة الشيعية العربية في لبنان، فيما كان النزوع الكردي ثأرياً وانتقامياً إزاء عرب سورية والعراق، على الرغم من عدم مشاركتهم في رسم خريطة المشرق في الحربين العالميتين الأولى والثانية التي حرمت الكرد من الدولة.
أما النزوع التركي الذي كان عنصرياً في الألفية الميلادية الثانية، فيبدو على عتبة الألفية الثالثة، حالماً بـ«عصملّية» جديدة، في إيوائه الإنساني لثلاثة ملايين سوري هاربين من جور الدولة العلوية. وها هو الرئيس إردوغان يفعل ما لم يفعله الكردي. فقد تعهد سلفاً بالانسحاب من محافظة إدلب، بعد استكمال مهمته في تقويض الحلم المزدوج «الكردي/ القاعدي» فيها.
ضعف الانتماء القومي تسبب في أزمات الكارثة الراهنة في الحاضر العربي. ولعل احتمالات التقسيم تأتي في الأهمية بعد إشكالية الهوية، بحيث يمكن السؤال عما إذا كانت سورية. والعراق. واليمن. وليبيا تستطيع المحافظة على كياناتها الترابية. لأن الانتفاضة أثبتت فشل صيغة «الهوية/ الشعب» التي فرضتها بريطانيا وفرنسا في المشرق العربي منذ مائة عام.
تتوارى أوروبا لتبرز أميركا وروسيا كأكبر مِعْوَلَيْن يقسمان سورية. انتهزت أميركا تخلي «المعارضات» السياسية والدينية عن العروبة، فتبنت أكراد سورية، دافعة بهم من الحدود مع تركيا، جنوباً نحو أرض عربية، لم يسبق لهم أن سكنوها (محافظة الرقة)، وذلك بحجة مقاتلة «داعش». ثم ما لبث الأميركيون أن نقلوا حشوداً داعشية مهزومة، من العراق ليلقوا بها خلف القوات الإيرانية ومرتزقة «حزب الله» المنطلقة من دير الزور إلى مدينة الميادين الاستراتيجية. فأوقعوا بها خسائر فادحة.
يبدو أن الطيران الروسي ثبَّت الوضع في الميادين، فيما تمكنت تركيا من اختصار التوسع الكردي في غرب الفرات، ومحاصرته في منطقة عفرين. وسيتم البت بمصير هذا الجيب، بالاتفاق بين تركيا وروسيا اللتين تسعيان لتحييد «هيئة تحرير الشام القاعدية» في محافظة إدلب.
وهكذا، فيما تبقى لوحة التقسيم غامضة في سورية، يقول نظام دمشق إن قواته (الإيرانية) سيطرت على المعابر الجنوبية مع الأردن. أما إسرائيل فهددت الجيش اللبناني بضربه في أية حرب مع «حزب الله» في لبنان، الأمر الذي يعني احتمال عودة القوات الإسرائيلية إلى جنوب لبنان.
أما العراق فقد تم تقسيمه عملياً، بانفصال كردستان منذ نحو ثلاثين سنة. وستعمد السنّة (12 إلى 15 مليوناً) إلى إعلان الانفصال، إذا أعلن الأكراد الاستقلال. وها هي دولة «شيعستان» قائمة عملياً في وسط العراق وجنوبه، وعاصمتها بغداد.
هذه التوقعات الافتراضية غير المتفائلة بالنسبة للمستقبل العربي، فرضها الحاضر غير المريح. وقد يضفي عليها الموقف الأميركي الجديد من إيران مزيداً من القلق. والاضطراب. فقد تلقت إيران من الرئيس ترمب ضربة على اليد. وليس صفعة على الخد. فهو لم ينسحب من الاتفاق النووي. لكن يريد أن يحاسب إيران كدولة مارقة على النظام العالمي، بالتدخل في منطقة عربية لا تتفق معها في الانتماء. والمذهب. والمصلحة. وبممارسة الإرهاب. ومواصلة تجاربها الصاروخية التي لا يمكن فصلها عن طموحها لامتلاك القنبلة النووية بعد عام 2025.
أدخل ترمب السرور على قلوب الخليجيين الذين أقصاهم الرئيس أوباما عن المفاوضات النووية مع إيران. لكنهم يراقبون بحذر كيفية تطبيق الاتفاقات التكتيكية الغامضة التي لم تتضح في شرق سورية. فسيتم سحب الفلول الداعشية من المدن (الرقة. دير الزور. الميادين)، لترابط على طول الحدود مع العراق، ولتبقى شوكة في خاصرة القوات الإيرانية ومرتزقة الحزب التي وصلت إلى دير الزور، فيما ترابط قوات أميركية في ريفها وعلى مجرى الفرات.
في البحث عن المستقبل، انتظرنا أمس وبكرة. «معلش لننتظر بعد بكرة. واللي بعده».