مجتمع قادر على الانتحار

مجتمع قادر على الانتحار

مجتمع قادر على الانتحار

 العرب اليوم -

مجتمع قادر على الانتحار

غسان الإمام

 

إلى الآن، أخفق الطب العربي، في علاج المريض الليبي المصر على الانتحار في ميدان الوغى. ربما كان على الأنظمة العربية الأربعة التي تتولى، فرادى، علاج المريض في مشافيها، أن توحد مساعيها، في جهد جماعي مشترك، لمعالجة حالة الفصام (الشيزوفرانيا) التي انتابت ليبيا، بعد خلاصها من شبح أعرابي حكمها بفطنة سذاجته، نحو خمسين سنة.
وإلى الآن، أخفق الطبيب الدولي بان كي مون في غرز الإبر الكورية، في جسد النظام السوري. وهو يكتفي بـ«تفسيح» المريض السوري، على ضفاف بحيرة جنيف. لعل النجاة تكتب له، من إبر ومسلات مائة تنظيم ديني، غرزها النظام الطائفي في جسده.
أما في العراق، فيبدو الطبيب الأميركي أوباما، نادما على الانسحاب قبل الأوان من «عصفورية» الجنون المذهبي (2011)، تاركا الفرصة لدخان «التنباك» العجمي، لكي يدوخ نظاما شيعيا، ينافس عفريت «داعش» في تمزيق العراق، إلى ثلاثة كيانات طائفية. مذهبية. وعنصرية.
في مصر، عاش الشعب الطيب حالة «شم نسيم» الحرية، بعد خروجه من مقام «الحضرة الإخوانية». واستعاد السودان رئيسه عمر حسن أحمد البشير الذي حاولت المحكمة الدولية خطفه علنا، من القمة السوداء في جنوب أفريقيا. فعاد ليكرس انتفاضة شعبيته المزمنة، بالتلويح بالعصا السحرية المنتصرة لشرعية النظام العربي، على شرعية العدالة الدولية.
أما في اليمن، فقد تمكن القصف الجوي الخليجي، من إقناع الحوثيين، باستحالة بيع إيران العقار الترابي اليمني، لكن دبلوماسية الإدارة الأميركية قد تمكنت من التفاهم مع الحوثيين، في محادثات غائمة جرت على هضاب عُمان، على الذهاب إلى جنيف. لعل الوسيط الدولي بان كي مون يقلب هناك المائدة على القرار الدولي «2216» الذي تبنى التسوية الخليجية المقترحة، لإحلال السلام، في اليمن «السعيد» جدا بحلف الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، مع الهيمنة الحوثية.
لكن لماذا وكيف وصل المجتمع العربي، إلى هذه الحالة المرضية المستعصية على العلاج؟! أستطيع أن أقدم ثلاثة أسباب أساسية، لفشل المجتمع العربي المعاصر: سقوط مفهوم الوطن والمواطنة. صعود الآيديولوجيات البديلة للمشروع الوطني والقومي. فشل التربية التعليمية والثقافية، وعجز التنمية الاقتصادية عن تبني التنمية البشرية.
في التفاصيل، أقول إن نظام الاستقلال تأخر، في تبني مبدأ القانون، لفرض المساواة في الحقوق والواجبات. وأدت المحاباة إلى حرمان الأجيال المتعاقبة، من تكافؤ الفرص في الوظيفة العامة. والعمل الحر. والمشاركة في صنع القرار السياسي.
وكان من شأن ذلك، تراجع مفهوم الوطن لدى المواطن المدني والعسكري، بحيث لم يعد يباهي بالانتساب إلى الوطن. أو الدفاع عنه. وتلاه سقوط المشروع الوطني والقومي الذي تعهد بتحويل دولة الاستقلال المعاصرة، إلى دولة الحداثة الوحدوية القائمة على الليبرالية الديمقراطية.
لم تكن طاقة المشروع القومي على الدفاع والهجوم، كافية لمواجهة المشروع الصهيوني الذي تمكن من الانتقال من حالة الإرهاب، إلى حالة تبني الحرية السياسية. هذا الانتقال الاحتيالي المدعوم بالتفوق التقني الغربي، ضمن لإسرائيل، منفردة، إلحاق الهزيمة بجيوش المشروع الوطني والقومي.
وكانت في مقدمة أسباب الهزيمة «شخصنة» المشروع القومي الناصري. فحل «البطل» محل المؤسسة المشروعة الثابتة والدائمة، في حضور «البطل» وفي غيابه. ثم لا أنسى النزاعات بين مراكز القوى داخل الدولة الناصرية التي خبرتها شخصيا كصحافي. ثم نزاعها المبكر وغير المجدي مع النظام التقليدي العربي، في حين كان بالإمكان الوصول، إلى تسوية للتعايش الحضاري والسلمي معه، تماما كالاتحاد الأوروبي الذي تتعايش فيه الجمهوريات مع الملكيات الوراثية.
بل دخلت الدولة الناصرية اللاحزبية في اشتباك سياسي، وأحيانا دموي، مع المشروع القومي لحزب البعث الذي استقال من دولة الوحدة، بدلا من أن يناضل من داخلها، لتحقيق الحرية السياسية. ثم ما لبث أن سقط الحزب أسير العلوية الطائفية في سوريا، والمذهبية السنية العشيرية في عراق صدام. كان البديل، للمفهوم الواسع للوطن والمواطنة، صعود الآيديولوجيات الأضيق من الآيديولوجيا القومية. وانتشار الثقافة الدينية «الإخوانية» التي قوضت الإصلاحية الدينية المبكرة، عند الأفغاني. ومحمد عبده. وعلي عبد الرازق... وحاولت صرم العلاقة بين التراث والثقافات الإنسانية.
من المؤسف أن لا ينتبه النظام التقليدي العربي إلى فلسفة المفكر الإخواني سيد قطب، للإسلام المأزوم بالحصار الهندي، وجعله مشروعا إخوانيا لمحاصرة المجتمع العربي، وتكفير نظامه. وإسلامه المعتدل والمتسامح. أخطأ عبد الناصر في منح المشروع الإخواني «شهيده» سيد قطب (1966). فولدت من رحم الإخوان تنظيمات أكثر دموية وتزمتا. فكان النظام التقليدي في مصر. وتونس. والسودان. وإيران. وأفغانستان، متعاطفا معها. ثم ضحية لعنفها.
نعم، تمكن النظام العربي التقليدي، من إلحاق الهزيمة بمشروع الإسلام الطالباني / الأفغاني. لكن المؤسسة الدينية التقليدية أخفقت مع المؤسسة الإخوانية، والمرجعية الإيرانية، في استيعاب زخم مشايخ الفقه الديني المتزمت الذين ما زالوا يستولدون جيلا بعد جيل، من «الدواعش». و«القاعدة». و«النصرة». و«حزب الله». و«بوكو حرام»...
الأمل الكبير في نجاح المشروع التربوي / التعليمي الخليجي، بإنتاج جيل جديد، يستفيد عمليا من الأكاديميات الغربية التي فتحت فروعا لها في أطراف الخليج. لكن المحزن غياب أي مشروع لتوحيد المناهج التربوية والتعليمية في العالم العربي. وإنتاج جيل عربي ذي ثقافة تعددية. متماسكة. وممتنعة على غزو ثقافة الجاهلية «الداعشية» التي تستدرج شبابا بلا ثقافة دينية ووعي سياسي، للموت انتحارا في سوريا. والعراق. وليبيا. ودول الصحراء الأفريقية.
وأخفقت التنمية الاقتصادية في توفير البنى الأساسية للمجتمعات العربية المحرومة. ويفاخر تكنوقراط السلطة الاقتصادية، بأرقام النمو الاقتصادي. والدخل الفردي التي لا تراعي الهوة الحقيقية بين الدخول العالية لشرائح «البزنس» المرفهة، والدخول المتواضعة نسبيا للطبقة الوسطى النامية. ولا تحكي شيئا عن الدخل الأقل من الدولارين اليوميين اللذين بالكاد يكسبهما العامل أو المتعاطل على خط الهوة السحيقة للفقر العربي المزمن.
لا بد من التأكيد على خطأ فصل التنمية البشرية عن التنمية الاقتصادية. هذا الفصل المتعمد أدى إلى تراجع القوة الشرائية للإنسان العربي العادي. وما زلت مصرا على تحميل فوضى الكثافة السكانية الهائلة مسؤولية فشل التنمية الاقتصادية، في رفع مستوى الدخل الاقتصادي. والمستوى التعليمي للأسرة العربية. ومن السخرية اللاذعة أن الحروب الأهلية. والزلازل السياسية. وجميلات التلفزيونات، لم تمنع هذه الأسرة من ممارسة شراهة الإنجاب.
ولعل المرجعية الدينية التقليدية توفر السند الفقهي، لحليفها النظام العربي، لتمكينه من تخطيط الأسرة، وربط النكاح الشرعي بقدرة الإنتاج الوطني، على استيعاب ستة ملايين شاب عربي يصلون عتبة العمل. المأساة أن معظمهم لا يجده كل عام. بسبب الفساد. والمحاباة. وغياب التنمية البشرية.
وبعد، ما زال صاحبي القارئ العزيز، يسألني عن حل لمسألة الازدحام البشري الذي ينجب مليون طفل مصري كل ثمانية شهور. ليس لدي سوى تذكيرك، يا بني، بفلسفة أبي العلاء المعري المتزهدة: «صاحِ. خفف الوطأ. فما أظن أديم الأرض، إلا من هذه الأجساد».

arabstoday

GMT 07:20 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

زحام إمبراطوريات

GMT 07:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

اليمامة تحلّق بجناحي المترو في الرياض

GMT 07:15 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

ما بعد وقف إطلاق النار؟

GMT 07:12 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

ماذا وراء موقف واشنطن في حلب؟

GMT 06:52 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

أزمة ليبيا باقية وتتمدد

GMT 06:50 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

ليس نصراً ولا هزيمة إنما دروس للمستقبل

GMT 06:46 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

العلاقات التركية السورية تاريخ معقد

GMT 06:44 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

السينما بين القطط والبشر!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مجتمع قادر على الانتحار مجتمع قادر على الانتحار



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 21:48 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة
 العرب اليوم - انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة

GMT 09:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
 العرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 05:57 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

المحنة السورية!

GMT 07:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

اليمامة تحلّق بجناحي المترو في الرياض

GMT 19:01 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

6 قتلى في قصف للدعم السريع على مخيم للنازحين في شمال دارفور

GMT 22:51 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الإسرائيلي يأمر بإخلاء شمال خان يونس "فوراً" قبل قصفه

GMT 20:03 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

القبض على موظف في الكونغرس يحمل حقيبة ذخائر وطلقات

GMT 20:27 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

دعوى قضائية على شركة أبل بسبب التجسس على الموظفين

GMT 22:06 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

إيقاف واتساب في بعض هواتف آيفون القديمة بدايةً من مايو 2025

GMT 08:16 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

وفاة أسطورة التنس الأسترالي فريزر عن 91 عاما

GMT 18:35 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

العراق ينفي عبور أي فصيل عسكري إلى سوريا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab