«هاملت» أو الحائر ضدّ الحاسم

«هاملت»... أو الحائر ضدّ الحاسم

«هاملت»... أو الحائر ضدّ الحاسم

 العرب اليوم -

«هاملت» أو الحائر ضدّ الحاسم

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

في واحد من أبياته الشهيرة يقول المتنبّي:
إِذا ما تَأَمَّلتَ الزمانَ وَصَرفَهُ
تَيَقَّنتَ أَنَّ الموتَ ضَربٌ منَ القَتلِ
ويقول في بيت آخر:
كـلّـمـا أنـبـتَ الـزمانُ قناةً
ركّبَ الـمـرءُ في القناة سِنانا
ويرقى البيتان هذان، ومعهما أبيات كثيرة من شعره، إلى تأمّل في البشر وأحوال الدنيا. لكنّ العبارة التأمّليّة عند المتنبّي تبقى مجرّد بيتٍ كثيراً ما يليه بيت ينقلنا إلى شأن آخر. ثمّ إنّنا إذا جرّدنا معنى البيت عن غلافه في الوزن والقافية، فقدَ الكثير من وقعه ومن الأثر الذي يتركه.
مع ويليام شكسبير، نحن أمام شيء مختلف، ينبني ويتمدّد على مدى المسرحيّة الشعريّة كلّها. وهو، بالحالات والمشاعر التي يرسمها (الطموح، الجشع، الحبّ، العدالة، الانتقام، الكراهية، الندم، المسامحة، التعاطف مع المأساويّ، وعلاقة السلطة بالجنون...) يعبر الأمكنة والأزمنة، فيما يرتسم الإنسان، قبل قرنين على «التنوير»، مفهوماً واحداً ومثالاً لا يقبل الانقسام.
بعض دارسي شكسبير رأوا ما هو أكثر: فهو، وطبعاً من دون قصده، ساهم في تذليل سؤال فلسفيّ قديم: هل الأولويّة والأسبقيّة لليد؟ العمل أم للذهن؟ الفكر؟
ذاك أنّ أبطاله (هاملت، مكبث، عطيل...) لم يوجَدوا بالضرورة كأفراد ماديّين، لكنّ تأثيرهم وحضورهم في حياة البشر وسلوكهم ومشاعرهم يفوقان أيّ تأثير أو حضور يمارسهما إنسان فعليّ.
«هاملت»، أمير الدنمارك، كُتبت مسرحيّته بين 1599 و1602، باستلهام قصّة اسكندنافيّة قديمة رواها المؤرّخ الدنماركيّ ساكسو غرامّاتيكوس عن طفل يُدعى أملِث (Amleth)، رأى عمّه يقتل أباه فتظاهر بالجنون كي يُطمئن عمّه، فحين كبر ذبحه بسيف أبيه.
لكنّ هاملت لم ينجز قتل عمّه بسهولة، وهذا ليس مردّه إلى صغر سنّه فحسب، بل أيضاً لكونه لم ير الجريمة بعينيه. هكذا تسلّل الغموض والحيرة الشكسبيريّان اللذان لازما المسرحيّة كلّها ورسما وجهتها.
لقد عاد هاملت إلى بلدة إلسِنور بعد موت والده، وما هي إلا أشهر حتّى تزوّجت أمّه غيرترود عمَّه كلاوديوس وقد تولّى المُلك الذي كان يُفترض بهاملت أن يرثه. بيد أنّ الأخير ما لبث أن تحوّل أسيراً للماضي وظلاله المختلطة: فبصورة متكرّرة راح يزوره شبح يزعم أنّه روح أبيه العائدة من القبر، وأنّه ضحيّة جريمة مجنونة ارتكبها العمّ كلاوديوس الذي لم يكتف باغتصاب العرش؛ بل سرق قلب أمّه الملكة غيرترود أيضاً.
وإذ ينقلب حزن الأمير الصغير إلى غضب، ويبدأ التخطيط لانتقامه من الملك الجديد، تتبدّى خططه متضاربة يطوّحها الشكّ والتردّد. هكذا بات هاملت شخصاً غضوباً ومضطرباً، لكنّه بات أيضاً أكثر شخصيّات شكسبير أنسنةً، بالمعنى الذي يضع الحائر، المثقل بالأسئلة، والذي يفكّر أكثر ممّا يبادر، مقابل الحاسم، المسكون بجواب فقير واحد، والذي يبادر من غير أن يفكّر. فهاملت إذ استولى تقليب الأمور على أوجهها، تناسلت أسئلته وتراكمت التناقضات التي شكّلت زياراتُ الشبح - الأب مصدرها، فيما تواصل مونولوغه الذي يشخّص معضلته الوجوديّة وتمزّقه بين الفكر والعمل.
ولكي يزيل الشكّ تظاهر، هو أيضاً، بالجنون، ثمّ افتعل سهرة ومسرحيّة اعترف كلاوديوس خلالهما بفعلته. لكنّ التيقّن من هذه الحقيقة لا يعني تيقّناً من الحقائق كلّها. فالأحداث لا تلبث أن تتلاحق، من منفى هاملت إلى انتحار أوفيليا، شريكته في عشق ملتبس، إلى غضب أخيها لَيَرتِس على هاملت، وأخيراً تنظيم كلاوديوس مبارزة بالسيف بين الاثنين، مُسمّماً سيف لَيَرتِس ونبيذ هاملت الذي يقرّر أنّ اللحظة المناسبة لقتل كلاوديوس قد أزفت. لكنْ بعدما يُطعن هاملت، تشرب الأمّ غيرترود النبيذ المسمّم مدركةً أنّه مسمّم، ثمّ تعطيه لابنها كي تُفشل خطّة كلاوديوس، فلا يكون هو قاتل ابنها مثلما قتل زوجها قبل ذاك.
وتنتهي التجربة المُرّة بطرح كثيرين ما بين ميّت وجريح ومسموم، ويغرق الكلّ في بقعة دم وموت، فلا يبقى حيّاً سوى صديق هاملت الحميم هوراشيو كي يخبر الملك الجديد فورتِنبراس بحقيقة ما جرى. ذاك أنّ دورة العنف المقيمة في تراجيديا الثأر أبديّة، تعود إلى قصص قدامى الإغريق. وعن الرغبة في الانتقام لا يتأدّى سوى إفساد المنتقم نفسه الذي يموت هو أيضاً مثله مثل الآخرين.
لكنْ لئن ظلّ كلاوديوس، على مدى المسرحيّة، منشغلاً ببناء جيش يستولي به على النرويج، فهذا ما جعل الدنمارك تعيش حالة من التأرجح ما بين الحرب واللاحرب. وكما يحصل عادةً، ينهمك الحكّام، بذريعة الأعداء الخارجيّين، بالبحث عن أعداء في الداخل، وتغدو بلدة إلسِنور مجتمعاً يتآمر فيه كلّ واحد على الآخر ويراقب الجميعُ الجميعَ. أمّا هاملت، ففضلاً عن مراقبته الدؤوبة لكلاوديوس، يراقب نفسه ويسائلها بقلق مُلحّ يكثّر أطواره النفسيّة وأمزجته المتنازعة والخلاّقة.
ويبدو أنّ نقد الدنمارك (إلسِنور) كان يخبّئ نقد شكسبير لإنجلترا زمنه - إنجلترا العصر الإليزابيثيّ التي اشتهرت، إلى إبداعها الفنّيّ والأدبيّ، بشيوع الجاسوسيّة والمؤامرات المتبادلة بين البروتستانت والكاثوليك. فإليزابيث الأولى أسّست يومذاك شبكة موسّعة من المخبرين لكشف خصومها، ممّن أعملت المقصلة برقابهم. أمّا شبح الأب العالق بين الحياة والموت فارتبط هو الآخر بالسياسة والتنازع الدينيّ: ذاك أنّ بروتستانتيّة إليزابيث المتشدّدة ألغت، بين ما ألغته، الرواية الكاثوليكيّة عن «المَطهر» (purgatory) - تلك المحطّة التي يُعذّب فيها الخُطاة ويُطهّرون قبل انتقالهم إلى السماء. هكذا تحوّل «المطهر»، وقد مُنع رسميّاً، إلى مجاز وصور شعريّة كثيراً ما تتلاءم مع العالم الشكسبيريّ المشوب بالحيرة والغموض، وبتضارب الحالات النفسيّة وما يلازم ذلك كلّه من ألم ومعاناة.
لقد نوقشت المسرحيّة كثيراً، وممّا شاع في تأويلها رأي فرويد الذي ربط بطء هاملت في التوصّل إلى قراره قتلَ كلاوديوس بعقدة أوديب المقموعة لديه وبعواطفه حيال أمّه التي كره ذهابها «إلى سرير عمّه». وقد أجمع كثيرون على أنّ مسرحيّة «هاملت» هي الشهادة الأكثر إقناعاً على أنّ الأدب أفكارٌ قبل أيّ شيء آخر، وأكثر منهم أولئك الذين اعتبروها أهمّ أعمال شكسبير، بمن فيهم شكسبير نفسه الذي سمّى نجله «هامنِت».

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«هاملت» أو الحائر ضدّ الحاسم «هاملت» أو الحائر ضدّ الحاسم



أحلام بإطلالات ناعمة وراقية في المملكة العربية السعودية

الرياض ـ العرب اليوم

GMT 09:58 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

أنغام تثير الجدل بتصريحاتها عن "صوت مصر" والزواج والاكتئاب
 العرب اليوم - أنغام تثير الجدل بتصريحاتها عن "صوت مصر" والزواج والاكتئاب

GMT 11:30 2025 الإثنين ,20 كانون الثاني / يناير

عشبة القمح تعزز جهاز المناعة وتساهم في منع السرطان

GMT 15:40 2025 الثلاثاء ,21 كانون الثاني / يناير

SpaceX تطلق 21 قمرًا صناعيًا من Starlink إلى المدار

GMT 05:56 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

حريق جديد في لوس أنجلوس وسط رياح سانتا آنا

GMT 15:41 2025 الثلاثاء ,21 كانون الثاني / يناير

مانشستر سيتي يعرض 65 مليون يورو لضم كامبياسو موهبة يوفنتوس

GMT 03:25 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

استمرار غياب تيك توك عن متجري أبل وغوغل في أميركا

GMT 03:02 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

زلزال بالقرب من سواحل تركيا بقوة 5 درجات

GMT 03:10 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

استشهاد مسؤول حزب الله في البقاع الغربي محمد حمادة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab