الطوبى والتبشير في مواجهة التحريض والنزعة القياميّة

الطوبى والتبشير في مواجهة التحريض والنزعة القياميّة!

الطوبى والتبشير في مواجهة التحريض والنزعة القياميّة!

 العرب اليوم -

الطوبى والتبشير في مواجهة التحريض والنزعة القياميّة

بقلم - حازم صاغية

«القياميّ» أو «الرؤيويّ» تعبير يصف نهاية العالم، لكنّه في دلالة أعرض وأشمل، يصف حدوث ما لا يحدث عادةً أو عدم حدوث ما يحدث، ممّا يرفضه العقل. هكذا، وبموجب القياميّ، ينهض الموتى من قبورهم مثلاً، أو يموت الأطفال كلّهم، أو يجرف طوفانٌ ما العالم برمّته، أو تغدو الأشجار وحوشاً مفترسة، أو أمور غرائبيّة أخرى من هذا القبيل. وقد برع أنبياء اليهود في «العهد القديم»، خصوصاً منهم إيزايا (أشعيا)، في توجيه الإنذارات القياميّة لشعبهم، وفي وصف ما قد يُبتلى به هذا الشعب فيما لو مضى في عصيان أمر الله.

ولو لم يغضب أولئك الأنبياء، ولو لم يأتوا بتلك الصور والفانتازيّات الموسّعة، لخسرَ الأدب العالميّ الكثير ممّا جعله أدباً عالميّاً. لكنّ ما يكسبه الأدب، من جرّاء القياميّة تلك، يعلن عن هشاشة الحياة ومدى المخاطر التي قد تحيق بالبشر.

ومَن يتابع الحرب المتواصلة على قطاع غزّة، بما يُفعل فيها وما يُقال، وبصيغ التهديد والوعيد التي ترافقها، أو بإعلانات النصر المتبجّحة التي تهبّ من جانبيها، يكاد يشعر أنّ الوجهة القياميّة تنافس الواقع على واقعيّته. وإذا كانت الأمثلة على هذا، ممّا يقدّمه الطرفان المتحاربان، أكثر من أن تُحصى، بقي أنّ احتمال تحقّقها، أو تحقّق بعضها، إيذانٌ كافٍ بانقلاب سائر المعاني، والانقلاب واحد من إشارات النهايات. فما الذي يوصف به تحقيق إسرائيل انتصاراً شاملاً كاسحاً في ظلّ قطيعة متعاظمة عن العالم وعزلةٍ هي غالباً ما تمهّد لاندحار صاحبها؟ وكيف يُترك لمستوطنين مهووسين أن يغيّروا بالعنف طبيعة الأشياء؟ وبأيّة تسمية يُسمّى جزم عدد من القابعين في أنفاق تحت الأرض بأنّهم سوف يحرزون للشعب الفلسطينيّ انتصاراً يتأرجح بهم بين البحر والنهر؟

وفي هذا جرعة من اللاعقلانيّة تتجاوز الناطقين المباشرين بها إلى من يتلقّونها مُصدّقين ويستقبلونها محتفلين، بحيث يتبدّى لوهلة كأنّ اللاعقلانيّة هذه هي عين العقل.

والحال أنّ فكرة «الإبادة»، إن كفعل جريميّ موسّع ترتكبه إسرائيل يوميّاً منذ نيّف وسبعة أشهر، أو قبلذاك كنوايا عبّرت عنها عمليّة 7 أكتوبر، تنطوي في ذاتها على إرهاص قياميّ يعيش معنا الآن في أعداد القتلى وإجلاء السكّان واحتلال الأراضي وجوع الأطفال وتغيير كلّ ما كان قائماً... وحين نتذكّر أنّ الإبادة والإباديّة حصلتا مرّات عدّة في تاريخنا الحديث، وفي المشرق العربيّ خصوصاً، يصيبنا الذعر المبرّر من أن لا تكون قياميّةُ حدثٍ ما ضمانةً ضدّ حدوثه.

والصورة هذه لا تكتمل من دون الإلماح إلى الشلل والعجز اللذين يصيبان البشر أمام حالة كهذه متخمة باليقين وباللاعقلانيّة وبالدمار، ممّا لا يبعد كثيراً عمّا يسبّبه احتمال استخدام السلاح النوويّ، سيّما متى كان احتمال كهذا يحظى بجماهيريّة واسعة تحضّ على استخدامه!

لكنْ هل يستطيع اليوم أيٌّ كان، أكان في منطقتنا أو في العالم، أن يقلب فكرة «النهاية»، بكلّ ما تنطوي عليه من وعي قياميّ، إلى «بداية»؟ وهل يمكن بالتالي إحداث انتقال تدريجيّ من العنف إلى السياسة، ومن القطع إلى التسويات، ومن الحرب إلى السلام؟

تساؤل كهذا قد يبدو ضرباً من الطوبى في ظلّ ذينك العجز والشلل اللذين يجاوران ساحة الحرب ويغلّفانها، أو في ظلّ توزّع القوى السياسيّة المؤثّرة بين تلك المنحازة كلّيّاً إلى إسرائيل وتلك التي تفتقر إلى كلّ تأثير، وهذا فضلاً عن هيمنة فكرة الانتصار بأيّ ثمن كان على كلّ فكرة أخرى. مع هذا فبلوغ الكارثة المستوى الذي بلغته، وهي أصلاً هائلة الحجم، واحتمال توسّعها إلى مناطق وبلدان أخرى، يُلحّان على جعل مبارحة الحرب كهدف إنسانيّ وأخلاقيّ تتقدّم على كلّ هدف آخر وعلى كلّ مكسب محتمل لأيّ من أطرافها.

وحين تبدو حظوظ السياسة معدومة أو شبه معدومة، لا بأس برفع الطوبى سياسةً وهدفاً وشعاراً، والتمسّك بها تالياً في مواجهة القياميّة الزاحفة علينا من شتّى المواقع والأمكنة.

أمّا المعادلتان اللتان يبدو القول بهما طوباويّاً في يومنا هذا، وفي ظلّ سطوع الوعي الحربيّ بجذريّته وباستئصاليّته، فهما نفسهما لا تتغيّران:

- أنّه لا بدّ، سياسيّاً وحقوقيّاً وأخلاقيّاً، من دولة للشعب الفلسطينيّ، وبهذا يُذلّل نصف المشكلة،

- وأنّه لا بدّ من الإقلاع عن وهم إزالة إسرائيل وعن عقليّة حلّ النزاعات بالإزالة والمحو من أيّ نوع، وهنا يكمن تذليل نصف المشكلة الآخر.

هل يُعدّ هذا تبشيراً في ظلّ ضعف الأدوات وضعف الاستعدادات؟ ربّما. لكنّ التبشير يبقى، ولو كره الكارهون، خيراً من التحريض الذي ينتهي بنا جميعاً إلى مقبرة جماعيّة ضخمة وذات شهيّة لا تنضب.

arabstoday

GMT 08:40 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 06:34 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

المصريون والأحزاب

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الطوبى والتبشير في مواجهة التحريض والنزعة القياميّة الطوبى والتبشير في مواجهة التحريض والنزعة القياميّة



أحلام بإطلالات ناعمة وراقية في المملكة العربية السعودية

الرياض ـ العرب اليوم

GMT 09:58 2025 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

أنغام تثير الجدل بتصريحاتها عن "صوت مصر" والزواج والاكتئاب
 العرب اليوم - أنغام تثير الجدل بتصريحاتها عن "صوت مصر" والزواج والاكتئاب

GMT 11:30 2025 الإثنين ,20 كانون الثاني / يناير

عشبة القمح تعزز جهاز المناعة وتساهم في منع السرطان

GMT 05:22 2025 الثلاثاء ,21 كانون الثاني / يناير

تحالفاتُ متحركة

GMT 05:57 2025 الثلاثاء ,21 كانون الثاني / يناير

هل سيكفّ الحوثي عن تهديد الملاحة؟

GMT 04:01 2025 الثلاثاء ,21 كانون الثاني / يناير

زلزال بقوة 6 درجات يضرب تايوان ويخلف 15 مصابا

GMT 13:20 2025 الإثنين ,20 كانون الثاني / يناير

كريم عبد العزيز يتّخذ قراره الأول في العام الجديد

GMT 13:09 2025 الإثنين ,20 كانون الثاني / يناير

بعد 22 عاما محمد سعد يكشف سرّاً عن فيلم "اللي بالي بالك"

GMT 13:16 2025 الإثنين ,20 كانون الثاني / يناير

محمد منير يواصل التحضير لأعماله الفنية في أحدث ظهور له

GMT 08:47 2025 الإثنين ,20 كانون الثاني / يناير

جائزة هنا.. وخسارة هناك

GMT 09:11 2025 الإثنين ,20 كانون الثاني / يناير

الشرق الأوسط بين إرث بايدن وتأثير الترمبية

GMT 09:12 2025 الإثنين ,20 كانون الثاني / يناير

عاد ترمب... الرجاء ربط الأحزمة

GMT 09:16 2025 الإثنين ,20 كانون الثاني / يناير

لفائف لا مجلّد

GMT 09:15 2025 الإثنين ,20 كانون الثاني / يناير

حماس تخطف اللحظة والصورة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab