كأنّ العراق يتأسّس من صفر ولا يتأسّس

كأنّ العراق يتأسّس من صفر ولا يتأسّس

كأنّ العراق يتأسّس من صفر ولا يتأسّس

 العرب اليوم -

كأنّ العراق يتأسّس من صفر ولا يتأسّس

بقلم - حازم صاغية

يبدو العراق اليوم، وفي وقت واحد، هويّة تبحث عن مكان ومكاناً يبحث عن هويّة. لكنّ البحثين في مساريهما المرتبك يوحيان بأمرين: أنّ ذاك البلد يعيش طوراً تأسيسيّاً، بمعنى السعي إلى مطابقة المكان والهويّة وربطهما بجماعة وطنيّة توصف بالعيش المشترك، وأنّ الطور التأسيسيّ المذكور لا ينتهي إلى تأسيس.

فدائمٌ هو مشروع البحث عن «أسطورة مؤسِّسة» للعراق الذي يُفترض أنّه أُسّس قبل قرن، فيما المصاعب والعثرات المتزايدة، لا الإنجازات المتراكمة، هي ما يشوب ذاك المشروع. فالعراقيّون، وكما لو كانوا في مخاض جيولوجيّ لا يهدأ عصفها، ماضون في التساؤل: من نحن؟ وما معنى العراقيّة؟ فيما كلّ طرف يسلّح إجابته بالتاريخ وفق قراءة خاصّة له. وهذا، كما نعلم، سبق أن عاشته النخبة العراقيّة إبّان العهد الملكيّ، وكان أبطالها حينذاك ساطع الحصري وفاضل الجمالي ومحمّد مهدي الجواهري وآخرين.

فقبل أسابيع، احتدم السجال، وليس للمرّة الأولى مؤخّراً، حول تمثال رأس أبي جعفر المنصور المنصوب في إحدى ساحات بغداد. أمّا السبب فاتّهام بعض غلاة الشيعة ذاك الخليفةَ العبّاسيّ بأنّه قتل الإمام جعفر الصادق بالسمّ في العام 148 للهجرة، أو 765 للميلاد.

في الوقت نفسه تقريباً، كان البرلمان العراقيّ يناقش طلب زعيم التيّار الصدريّ، مقتدى الصدر، الذي شاء جعل يوم «الغدير» عطلة رسميّة في العراق. وقد أثار النزول عند طلب الصدر استياء سنّيّاً واسعاً، إذ الروايتان السنّيّة والشيعيّة تختلفان في تأويل ذاك اليوم وفي ما إذا كان النبيّ محمّد قد ولّى الإمام عليّ بن أبي طالب من بعده أم لم يفعل.

بطبيعة الحال فإنّ الولع بالحقيقة أو الولاء لتاريخ موضوعيٍّ هو آخر ما يعني الأطراف المتساجلة. وإذا كان الوعي الأهليّ، الطائفيّ أو الإثنيّ، ما يقود دفّة المهاترة، يبقى أنّ مسؤوليّة الطرف الساعي إلى الهيمنة تفوق كثيراً مسؤوليّة الأطراف التي تحاول صدّها.

وها هي الهيمنة إيّاها تمدّ يدها إلى تاريخ العراق الحديث أيضاً، وتحديداً إلى تأسيس الجمهوريّة العراقيّة. فيوم 14 تموز/ يوليو 1958 اختفى ذكره من قانون العُطل الرسميّة الذي حلّ فيه «عيد الغدير».

وربّما كانت خصوصيّة انقلاب 14 تمّوز أنّه كان، من بين الانقلابات العسكريّة في المشرق العربيّ، الوحيد الذي اهتمّ بأن يمتّن وطنيّةً تجمع بين سكّان بلده وتتلازم مع «أسطورة مؤسّسة». وهذا ما انعكس في عَلَم الجمهوريّة الذي تعدّدت ألوانه الرامزة إلى جماعاته، وفي محاولته مصالحة التاريخ القديم لبلاد ما بين النهرين وتاريخ البلاد الحديث، فضلاً عن جمعه بين العرب ممثّلين بشِعر صفيّ الدين الحلّيّ عنهم، والكرد ممثّلين بالشمس، رمزهم الميثولوجيّ العريق. لكنْ مع انقلاب البعثيّين الأوّل في 1963 توقّف العمل بالعلم هذا.

ونظام عبد الكريم قاسم (1958-1963) كان قد دلّل على حساسيّة فائقة حيال توكيد الوطنيّة العراقيّة التي أُريدَ حمايتها من تغوّل القوميّة العربيّة الناصريّة. والحساسيّة هذه، ومن بين أمور كثيرة أخرى، ظهرت في نُصب الحرّيّة الضخم الذي يتوسّط بغداد، والذي أنجزه في 1961، وبتكليف من قاسم، النحّات والرسّام الشهير جواد سليم. فقد احتفل النُصب هذا بتاريخ الفنّ العراقيّ القديم ممثّلاً بالنقوش الجداريّة البابليّة كما العبّاسيّة، احتفالَه بمواطني العراق فئاتٍ وشرائح تسعى وتكدح وتعاني.

وبهذا المعنى فإنّ محو 14 تمّوز يرقى إلى محو العمل التأسيسيّ الأكثر جدّيّة لوطنيّة عراقيّة جامعة، وهذا ما قصده بيان المثقّفين العراقيّين في استنكار ما يجري في بلدهم. فهم ربطوا الموقف الاستئصاليّ الجديد بـ»العمليّات الممنهجة الجارية منذ عقدين لتجريد الدولة العراقيّة من مقوّمات وجودها، ومنها تعويم وإلغاء رموزها السياديّة، التي نخشى أن تكون مقدّماتٍ لتقويض الدولة المدنيّة، وشرذمتِها بخلق كيانات بديلة ذات هويّات فرعيّة ضيّقة، وولاءات طائفيّة وعِرقيّة وقَبَليّة، روّجت لها بعض القوى المهيمنة على مقاليد الحكم في البلاد منذ سقوط الدكتاتوريّة». وربط المثقّفون تالياً بين هذه الخطوة الأخيرة و»عدم إقرار مشروع قانون علم الدولة العراقيّة، ونشيدها الوطنيّ»، وذلك لإبقاء البلد «بلا علم، وبلا نشيد وطنيّ»، كما حذّر بيانهم من «وجود نوايا مسبقة لتهديم الدولة العراقيّة، ومحاولات مستمرّة لتمزيق نسيج المجتمع العراقيّ بقوانين أخرى قد نتفاجـأ بها في أية لحظة». ولم ينس البيان التنبيه إلى «ما يتردّد عن وجود قانون لتأسيس مجلس للقبائل والعشائر العراقيّة، يمثّل ردّةً تكرّس قِيماً غادرها المجتمع، ويرسّخ التمييز بين أبناء الشعب بما يخالف الدستور والقيم المدنيّة».

فما يحصل اليوم، تحت أعين الرعاية الإيرانيّة وبحضٍّ منها، هو من ثمار الانقلاب الذي يلغي الوطن لصالح الطائفة، والدولةَ لصالح الميليشيا، ومحاولاتِ بناء تاريخ جامع لصالح التوكيد على تاريخ منقسم ومتصارع لا يلد إلاّ الهيمنة الفئويّة والعصبيّات المتحجّرة وكراهيّة الجميع للجميع.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كأنّ العراق يتأسّس من صفر ولا يتأسّس كأنّ العراق يتأسّس من صفر ولا يتأسّس



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 العرب اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 العرب اليوم - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 07:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 05:57 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاة نهال عنبر وأسرتها من موت محقق

GMT 22:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 3 جنود لبنانيين في قصف إسرائيلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيب غوارديولا يوافق على عقد جديد مع مانشستر سيتي

GMT 18:37 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن تفرض عقوبات على 6 قادة من حركة حماس

GMT 16:42 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

جماعة الحوثي تعلن استهداف سفينة في البحر الأحمر

GMT 08:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يُعلّق على فوزه بجائزة عمر الشريف

GMT 06:43 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 11:51 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تليغرام يطلق تحديثات ضخمة لاستعادة ثقة مستخدميه من جديد

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد العوضي يكشف عن بطلة مسلسله بعد انتقاد الجمهور

GMT 06:02 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 03:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تطالب بتبني قرار لوقف إطلاق النار في قطاع غزة

GMT 06:00 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتلة صورة النصر

GMT 18:42 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 18:00 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يكشف سر تكريم أحمد عز في مهرجان القاهرة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab