أرثر ميلر مقارعاً المكارثيّة

أرثر ميلر مقارعاً المكارثيّة

أرثر ميلر مقارعاً المكارثيّة

 العرب اليوم -

أرثر ميلر مقارعاً المكارثيّة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

حين نشاهد جمهوراً عبّأته خرافة جمعيّة فراحَ يسحق مَن لا ينساق وراءها، وحين نواجه حشداً يستمدّ قوّته من خرافة ثمّ يمضي في قهر مَن يفوقونه ضعفاً، أو حين نتعرّف إلى حالات اندفعت معها الطموحات الصغرى وراء مال أو سمعة أو ترقٍّ وظيفيّ إلى إيذاء آخرين...، في أوضاع كهذه تحضرنا مسرحيّة الأديب الأميركيّ أرثر ميلر «البوتقة» (the Crucible).
فهي تبقى من الأعمال الأدبيّة التي نجحت في القبض على روح حقبة ما، فتجّنبت في آن معاً كلاًّ من الابتذال والواقعيّة البليدة التي تحوّلها عملاً وثائقيّاً.
ففي 1953، إبّان السطوة المكارثيّة، ظهرت مسرحيّة ميلر، مستعيدةً، ومُحوِّرةً، ذاك الحدث الذي عرفته بلدة «سالم» في ماساشوستس خلال 1692-3. فهناك، وفي ظلّ غلوّ بيوريتانيّ، توجّه إلى الغابة، طلباً للرقص، عدد من الصبايا، في عدادهنّ تيتوبا، العبدة السوداء من باربادوس. لكنّ الأب صموئيل بارّيس، الذي سبق أن عمل تاجراً، كان مَن ضبطهنّ متخفّفات من الملابس، ما لاح أشبه بطقس سحريّ وثنيّ. وإذ اتّجهت الحشود إلى منزل الأخير، انتشرت في البلدة الشائعات حول ممارسة السحر. ومع أنّ أبيغايل، قائدة المجموعة، أصرّت على أنّ ما كنّ يفعلنه لا يتعدّى الرقص، استولى الخوف على بارّيس من فقدانه موقعه ومنصبه الدينيّ، هو الذي كان أهل البلدة يحتقرونه تبعاً لجشعه وحبّه المال. لكنّ رقص الفتيات في الغابة وفّر له الفرصة لتبييض نفسه، إذ عُيّن المدّعي العامّ المكلّف بمطاردة المتَّهمات بالسحر وبإدانتهنّ.
هذا الحدث المؤسِّس لـ»البوتقة»، ذات الفصول الأربعة، يتفرّع إلى موضوعات متشابكة عدّة.
فهناك المكارثيّة والحرب الباردة ورُهاب الشيوعيّة آنذاك (وميلر نفسه كان ممّن استُجوبوا في أواخر أيّام سطوتها). ذاك أنّ الثيوقراطيّة المتزمّتة في القرن السابع عشر تلازمت مع الصراع المتواصل ضدّ السكّان الأصليّين («الهنود الحمر»)، فبدا تعميم التوتّر والتعبئة في «سالم»، كما في أميركا الخمسينات، ممّا يستلزمه التزمّت ونزعة العداوة.
وبدورها استخدمت المكارثيّة تعبير نشاطات «غير أميركيّة» بمعنى يحيل إلى التخريب والهدم، ما أدّى إلى حملة الاستجوابات التي تجاوزت االشيوعيّين الحاليّين إلى السابقين، وتجاوزت السابقين إلى الذين كان يُحتمل أن يكونوا شيوعيّين، والذين يُحتمل أن يصيروا شيوعيّين! وهذا ما بدا موازياً لما فعله الدين في «سالم» حين عزّز الخوفَ المضخّم من السحر بوصفه تهديداً للإيمان القويم. هكذا تأدّى عن رقصة الغابة اتّهامُ أكثر من مئتي شخص بالسحر وإعدام أكثر من 25 منهم بموجب محاكمات صوريّة، إذ هم كائنات شيطانيّة ينبغي تطهير العالم منها.
وفي استخدامه محاكمات «سالم» كاستعارة أو درس أخلاقيّ عن المكارثيّة، رجع ميلر إلى الجذر الدينيّ الذي حكم إنشاء تلك المستوطنة ووسمها بميسمه. فهي أُسّست أصلاً «مدينةً على جبل»، في استلهام ضمنيّ لـ»عظة الجبل» الإنجيليّة. أمّا استذكارها فينطوي على إيحاء سياسيّ مفاده أنّ فكرة أميركا ليست سوى تحقيق لإرادة إنجيليّة. والفكرة هذه التي بعثتها المكارثيّة مجدّداً، إنّما ترتّبت عنها نظرة الاستثناء الذي أُسبغ على أميركا لكونها ذات مهمّة رسوليّة ولنورها الذي يهتدي به العالم. فلاجئون دينيّون من إنكلترا أرادوا أن يبنوا مجتمعاً مؤسَّساً على الإنجيل هم الذين أقاموا «سالم»، وهم كانوا بالفعل بيوريتانيّين متشدّدين سلوكاً وأخلاقاً، وفي تصويرهم العلاقة بين الله والمؤمنين. أمّا ما أقاموه فمجتمع ثيوقراطيّ معزول حكم بموجبه رجال الدين باسم الله.
والدين، مرّة أخرى، عاد مهمّاً في الخمسينات، حين تمسّكت أميركا بهويّة مسيحيّة قويّة ورأت إلى نفسها أمّة مؤمنة تخوض حرباً باردة ضدّ الاتّحاد السوفياتيّ الملحد.
لكنّ المسرحيّة قالت أيضاً إنّ الثمن الأفدح في تلك الحالات الهستيريّة هو الذي تدفعه فئات المجتمع الأضعف، لا سيّما النساء. فتيتوبا الباربادوسيّة جعلها اختلافها الجنسيّ والإثنيّ هدفاً سهلاً فكانت أوّل من اتُّهم بالسحر. أمّا المتّهمة الثانية فكانت ساره غود، وهي متسوّلة وشريدة بلا مأوى، تلتها ساره أوزبورن التي كانت نادراً ما تصلّي في الكنيسة. وبسرعة أفلتت الاتّهامات من كلّ عقال، فيما ظلّ القاسم المشترك بين أسباب الاضطهاد خليطاً من تمايزات الجندر والعِرق والفقر، خصوصاً الأوّل. والحال أنّ أكثر من ثلاثة أرباع المتَّهمين كانوا نساء، فيما اتُّهم الرجال المتَّهمون بسبب صلةٍ ما ربطتهم، على نحو أو آخر، بأولئك النساء.
فقد استُخدمت الأكاذيب المتعلّقة بالسحر لتوطيد ديناميّة سلطويّة غير متكافئة بين الجنسين، وغالباً ما كانت المحاكمات تُصمّم بحيث يستحيل على النساء، في مواجهة القضاة الذكور، أن يُثبتن براءتهنّ. هكذا أُعدمت كثيرات منهنّ لأسباب تافهة أو للاأسباب بالمرّة.
أمّا تقسيم العمل داخل الأسرة النواة تبعاً لسلطة المُعيل الذكر، وهو ما حضر بقوّة في المسرحيّة، فكان إحالة إلى التجربة الأميركيّة آنذاك: فالنساء، إبّان الحرب العالميّة الثانية، دخلن سوق العمل على نطاق واسع لتعويض الحاجة إلى الرجال الذين احتاجهم الجيش، فحين انتهت الحرب بات المطلوب إرجاعهن إلى البيت وأداءهنّ المهمّات التي تجعلهنّ أمّهات «سعيدات». وهو ما بات إحدى موضوعات النسويّات الأميركيّات كما يشير كتاب بيتي فريدَن الشهير «اللغز النسائيّ» الصادر عام 1963.
بيد أنّ هذا العالم الذي تستند الوشاية فيه إلى مظهر من النقاء الخالص مصحوب بالتعصّب لصواب ما، فعالم وسخ موبوء. فجيل كوراي، مثلاً، كان واثقاً من أنّ هدف المحاكمات الفعليّ سرقة أراضي المتَّهمين، ومالك الأراضي الكبير، توماس بوتنام، عُرف بطمعه وجشعه، مثله مثل رجل الدين صموئيل بارّيس، فيما تنافس التشدّد والانتهازيّة في سلوك القاضي توماس دانفورث. وإلى هؤلاء هناك الكثيرون الذين حاولوا حفظ سمعتهم كرجال صالحين بتشويههم سمعة الآخرين، وخصوصاً الأخريات، وبإيذائهم.
فـ»البوتقة»، في آخر الأمر، عمل قاسٍ ومظلم ينبّه إلى شرور لا تكاد تغيب عن مكان وزمان معيّنين حتّى تعاود الظهور في مكان وزمان غيرهما. لكنّ العمر المديد الذي كُتب للمسرحيّة يعلّم أنّ الولاء للحقيقة وللضمير هو وحده ما يصون السمعة والشرف. أمّا العقيدة القويمة والفضيلة المعمّمتان بقوّة الإرهاب فلا تفضيان إلاّ إلى ما هو نقيض كامل لهما.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أرثر ميلر مقارعاً المكارثيّة أرثر ميلر مقارعاً المكارثيّة



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 22:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
 العرب اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

1000 يوم.. ومازالت الغرابة مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:49 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد الأوروبي يؤجل عودة برشلونة إلى ملعب كامب نو

GMT 14:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئاسة الفلسطينية تعلّق على "إنشاء منطقة عازلة" في شمال غزة

GMT 06:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا لـ3 مناطق في جنوب لبنان

GMT 12:26 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت

GMT 13:22 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يناشد البابا فرانسيس التدخل لوقف الحرب

GMT 13:29 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

رئيس دولة الإمارات وعاهل الأردن يبحثان العلاقات الثنائية

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يعلن عن مكافأة 5 ملايين دولار مقابل عودة كل رهينة

GMT 14:17 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نادين نجيم تكشف عن سبب غيابها عن الأعمال المصرية

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تشارك في حفل توقيع كتاب «فن الخيال» لميرفت أبو عوف
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab