«الآخر» بوصفه جواب أرسطو

«الآخر» بوصفه جواب... أرسطو

«الآخر» بوصفه جواب... أرسطو

 العرب اليوم -

«الآخر» بوصفه جواب أرسطو

بقلم:حازم صاغية

ربّما جاز اختصار كثير من مشكلاتنا، في زمن الهويّات، بعنوان «العلاقة بالآخر». وربّما كانت الإجابة الثقافيّة «الأبكر» عن المسألة ما قدّمه أرسطو. فـ«المعلّم»، الذي وضع «الشِعريّات» (The Poetics) بعد 150 سنة على عصر التراجيديّات الأثينيّة، اندرج موقفه في التقليد المضادّ لأفلاطون الذي طرد الشعراء من جمهوريّته المثال إذ يشيعون رؤية زائفة للواقع، مقترحاً «حذفاً لبكائيّات المشاهير وخطاباتهم في الشفقة».

فأفلاطون لم يؤمن بالفنون التي تمثّل الواقع وتقلّده فلا تكون غير محاكاة (mimesis) وخِدَعاً. أمّا أرسطو فرأى وراء المحاكاة الآخريّةَ، وتمثّل الآخرين. وفي مستهلّ كتابه اعتبر أنّها ما يجعل التمثيل (representation) ممكناً.
لكنْ إذا كان الشعر محاكاة فهذا لا يعني أنّه نسخ للمُحاكَى، إنّما تخييل له في مختبر تجربة أخرى. فالغريزة تلك مزروعة في الكائن منذ طفولته، ما يجعله يتعلّم الكلام والمشي بتقليده الكبار، فإذا كان التعلّم هذا نافعاً ومُبهجاً، فأعمال المحاكاة، كالشعر والرسم والنحت، مدعاة مؤكّدة للسعادة.
والآخريّة لا تنفصل عن مسؤوليّة اجتماعيّة، وتصوّر لترقية اشتغال الدولة. فأفلاطون اعتبر أنّ مواطني الجمهوريّة متى رأوا شخصيّة بطوليّة يائسة أو قانطة أحسّوا بالحزن وبمشاعر سلبيّة مؤذية، أمّا مَن يشاهد مسرحيّات يُقتل فيها آباء وأمّهات، فلسوف تستولي عليه رغبات ثأريّة وضارّة. وعلى العكس كان هَمّ أرسطو أن يبرهن أنّ الشعر والمسرح مُثقِّفان للمجتمع، فيما التراجيديا تحديداً «تقليدٌ لعمل جدّيّ وكامل».
وهو إن وافق على أنّ الشعر والدراما يمكنهما إثارة المشاعر الحادّة، رأى أنّنا لا نحمل هذه المشاعر إلى حياتنا اليوميّة، بل نلجأ، بالتأمّل والإشفاق والخوف، إلى «التنفيس» (catharsis) والتحرّر من كابوس تلك الأحاسيس. وفكرة «التنفيس» هذه هي التي استعادها، بعد قرون، فرويد وزميله جوزيف بروير وطوّراها في المعالجة النفسيّة.
ذاك أنّ الأدب، وفق أرسطو، يوفّر الحيّز الذي نختبر فيه المشاعر القويّة قبل إخراجها من نظامنا ودواخلنا. وهكذا فموت أحدهم على الخشبة أمامنا يردعنا عن القتل أكثر ممّا يحضّنا عليه.
والتنفيس إذ يُشعرنا بالإشفاق على البطل المأسويّ، كما بالخوف من أن ننتهي إلى أوضاع مشابهة، يُدخلنا في عمليّة رَضيّة (traumatic) مؤلمة، إلاّ أنّها صحّيّة، تماماً كشعور المرء بالارتياح بعد بكائه أمام مشهد يعبّئه بمشاعر حادّة.
والحقّ أنّ الوظيفة التثقيفيّة هذه كانت، قبل أرسطو، رياضة وطنيّة للأثينيّين وإجماعاً بين حكّامهم ومحكوميهم. فآنذاك، في القرن السادس قبل الميلاد، كانت السلطات تعطّل المباني الرسميّة والمحاكم لتمكّنَ السكّان من مشاهدة المسرحيّات التي يعقبها نقاش وتداول يشملان 20 ألف مُشاهد. وكان سعي الجمهور معرفيّاً وعلاجيّاً أساساً، فهو كان على بيّنة ممّا سوف يحصل لأنّ التراجيديّات مبنيّة على ما يعرفه الجمهور من قصص قدامى الإغريق وأساطيرهم، حتّى الذين لا يعرفونها يعرّفهم «الكورس» بها في بدايات العرض. وهكذا فهم لا يحضرون عملاً ما كي يتابعوا تسلسل قصّته أو لاكتشاف نهايته، بل للتفكير والتأمّل. وكون الموضوع جدّيّاً، وجب التعامل معه بجدّيّة، فمُنع العنف والقتل على الخشبة، على عكس تمجيدهما في أطوار لاحقة، ولا سيّما الحقبة الرومنطيقيّة.
وأرسطو لم يكن محبّذاً للمبالغة المشهديّة، إذ إنّها تبتذل التراجيديا التي ينبغي أن ينضبط المُمتِع فيها بحبكة الفعل التراجيديّ نفسه. فالفعل يتقدّم على أبطال المسرحيّة، الذين هم، رغم خُطبهم البليغة، ليسوا من يُحدث التنفيس والتأمّل، بل يُحدثهما «ترتيب الأحداث». وتندفع الآخريّة أبعدَ فأبعد في تعريف أرسطو للتراجيديا، وهو الذي كان أوّل دارسيها في هذا العمل الذي يُعدّ باكورة النقد الأدبيّ (الجزء من «الشعريّات» المتعلّق بالكوميديا لم يصلنا). فالتراجيديا لا تقوم بلا بطل مركزيّ يخطئ خطأ يصعب الرجوع عنه، خطأً يرميه في وضع مأسويّ، إنّما يثير التعاطف معه المصحوب بالخوف من أنّنا قد ننتهي إلى مصير مشابه إذا ارتكبنا الخطأ إيّاه. فخوفنا على أنفسنا وإشفاقنا على البطل التراجيديّ ينتميان إلى عمليّة واحدة ينبثق منها حسّ رفيع بالمسؤوليّة وبدور الفعاليّة الإنسانيّة؛ فلئن لم يستطع البطل التراجيديّ أن يستفيد من إدراكه المتأخّر لخطئه (anagnorisis)، والعمل على تصحيحه، فالجمهور المتأمّل يستطيع ذلك. وما دامت الأخطاء تصدر عن أفعال إنسانيّة، فإنّها بأفعال إنسانيّة مغايرة قابلة للعلاج.
وهنا، ودائماً، يطرد المتحوّلُ القابل للتدخّل الإنسانيّ الجوهريَّ والماهويّ. فالتراجيديا غالباً ما تنطوي على معرفة مُباغتة تضرب ما سبق أن بدا يقيناً، وما أن تروح الحبكة تتكشّف حتّى تظهر لحظة، سمّاها أرسطو peripeteia، أو الارتداد عن المجرى السابق للأحداث بما يغيّر عالم المسرحيّة ويدفع البطل في وجهة مختلفة.
لهذا كان ضرورةً قصوى أن يشاهد المواطنون الأعمال التراجيديّة بانتظام لمقاومة ميولهم القويّة إلى الأحكام الجاهزة بحقّ آخرين والإدلاء، تالياً، بوعظيّات فارغة.
وهذا التماهي مع تجارب الآخر، والمسؤوليّة حيال ما يجمعنا به، والتعاطف مع من يخطئ والتعلّم من خطئه، إنّما يقف ضدّاً لقيم وممارسات درّجتها الأحزاب العقائديّة وصحافة «التابلويد» وبعض الإعلام الاجتماعيّ؛ خصوصاً سجالات التشهير، حيث يسارع الناطقون بلسان «حقيقة» ما، إلى تخوين من خالف، والشماتة بمن أخطأ.
لقد قدّم لنا أرسطو، قبل 25 قرناً، رؤية وتصوّراً رحبين. وهذا ما كان ليحصل لو لم يكن الأثينيّون سياسيّين يستخدمون التراجيديا وسيطاً لتقليب الأمور، أي الانفصال عن أنفسهم فيما يكونون متّصلين بها، والدخول تالياً في أنفس الآخرين. فأسخيليوس مثلاً الذي سبق أرسطو زمناً، كتب عملاً تراجيديّاً سماه «الفرس»، بعد 8 سنوات على هزيمة الغزاة الفرس في معركة سلامِس. ورغم مشاركته القتاليّة المرجّحة في الحرب، تمكّن أسخيليوس من أن يراها بعيون الخصم، ويقدّمها بصفتها هذه إلى الأثينيّين.
وهذا التفكير بالآخر، ومعه، وحياله، هو ما بات واحداً من شواغل الفكر السياسيّ المعاصر، وإن ظلّ من أضعف شواغل السياسة والسياسيّين.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الآخر» بوصفه جواب أرسطو «الآخر» بوصفه جواب أرسطو



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 09:52 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

أحمد حلمي يكشف تفاصيل لقائه بتركي آل الشيخ وجيسون ستاثام
 العرب اليوم - أحمد حلمي يكشف تفاصيل لقائه بتركي آل الشيخ وجيسون ستاثام

GMT 10:40 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

الكرملين ينفي طلب أسماء الأسد الطلاق أو مغادرة موسكو
 العرب اليوم - الكرملين ينفي طلب أسماء الأسد الطلاق أو مغادرة موسكو

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس

GMT 07:06 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مقتل 6 في غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين بغزة

GMT 17:33 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

حرب غزة ومواجهة ايران محطات حاسمة في مستقبل نتنياهو

GMT 14:05 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab