ياسبرز عن «العصر المحوريّ» و«الرؤية المتعالية»

ياسبرز عن «العصر المحوريّ» و«الرؤية المتعالية»

ياسبرز عن «العصر المحوريّ» و«الرؤية المتعالية»

 العرب اليوم -

ياسبرز عن «العصر المحوريّ» و«الرؤية المتعالية»

بقلم - حازم صاغية

ما بين 200 و 800 قبل المسيح ظهر كثيرون من كبار رموز التاريخ ومؤثّريه، في عدادهم كونفيوشيوس وبوذا والأنبياء العبرانيّون (عاموس وأشعيا وأرميا...) وسقراط وأفلاطون وأرسطو، وكذلك زرادشت (علماً بأنّ دراسات أحدث عهداً ردّت الأخير إلى حقبة أسبق). وهؤلاء الذين ولدوا في الصين والهند وفلسطين واليونان وإيران شكّلوا أبطال الحقبة التي سمّاها الفيلسوف الألمانيّ كارل ياسبرز «العصر المحوريّ» (The Axial Age) والذي يتكثّف خصوصاً حوالى 500 ق. م، مشكّلاً الاندفاعة الحضاريّة الثانية في التاريخ بعد حضارتي مصر وما بين النهرين.

في هذه القرون الستّة شهد العالم تغيّرات كبرى طالت الاقتصاد والتشكّل الإمبراطوريّ وطرائق الحكم وأحجام المدن، فبدا أنّ البشريّة تقفز قفزة تطوّريّة في نظرتها إلى الذات والعالم.

ولم يكن ياسبرز أوّل من قال بهذا التحقيب، لكنّه أوّل من صاغه وبلوره على النحو هذا، كاسراً السرديّة المسيحيّة – الأوروبيّة للتاريخ الإنسانيّ والتي شطرته إلى ما قبل المسيح وما بعده. ففكرة الثالوث المسيحيّ كانت، بحسب هيغل، محور الانعطافة التاريخيّة الكبرى التي أكّدت مركزيّة المسيح. ومع أنّ ياسبرز ذكر أنّه استلهم هيغل، غير أنّ فكرة «العصر المحوريّ»، كما حملها كتابه «في أصل التاريخ وهدفه» (1949)، أحدثت انقلاباً كاملاً على تحقيبه.

لكنْ يبقى أنّ السمة الأعمق لـ«العصر المحوريّ» ظهور رؤية متعالية (transcendental) قال بها أنبياء ذاك الزمن وفلاسفته. هكذا أعيد تقييم السياسات والأخلاقيّات الأرضيّة، أو جرى استبدالها، عملاً بالرؤية المذكورة وإملاءاتها. وكان للمكوّن الدينيّ الجديد أن أملى تغيّرات وتجديدات في اللاهوت والطقوس على السواء. فالسلطة القصوى والأخيرة (لله أو للآلهة) باتت تتعدّى العالم الطبيعيّ فيما بات يُرى إلى مسارات الكون بوصفها دورات تمثّل حركة المقدّس.

وهذا التجاوز لما يتعقّله البشر لا يطال بالضرورة الحيّز المكانيّ، بل مفاده أنّ معايير الزمان والمكان التي نعرفها في حياتنا لا تنطبق على ما وراء الكون. وهذا ما لا نستطيع، نحن البشر، استيعابه لأنّنا محكومون بشروط الزمان والمكان.

فـ«العصر المحوريّ» بالتالي هو الزمن الذي يروح فيه البشر يفكّرون في محدوديّة قدرتهم على الفهم ويندفعون، للمرّة الأولى، إلى التفكير بتلك القوّة التي تتعدّاهم وتستطيع ما لا يستطيعونه.

وهم قبلذاك لم يفكّروا في عالم غير هذا العالم، كما لم يظنّوا أنّ ثمّة واقعاً بديلاً له. وهذا هو التحوّل من دين مؤسّس على الطبيعة إلى دين متعالٍ على الطبيعة يولد معه العامل الخارق (supernatural) المجهول والغامض.

وبالطبع فُكّر قبل «العصر المحوريّ» بالآلهة بوصفهم أعلى من البشر وبأنّهم يملكون ما هو أقوى كثيراً من قواهم، لكنّ الآلهة ظلّت شبيهة بالبشر تقيم معهم في العالم نفسه، وإن اختبأت أحياناً في الكهوف والوديان.

كذلك لم يخطر لأحد، قبل ذاك العصر، بأنّ الجميع يمكن أن يتساووا في مكان ما. فقد كان من خارج المُتَخيّل أن يتساوى الحاكم والكاهن الأعلى، وعلى أيّ مستوى كان، مع الراعي والمزارع. لكنّ «العصر المحوريّ» انتصر لفكرة أنّ الناس يستطيعون، على الأقلّ، أن يملكوا طاقات وقدرات تؤهّلهم أن يكونوا متساوين، وأن تحاسبهم بالتساوي عدالة كاملة كانت فكرتها قد ظهرت للتوّ أيضاً.

فأحدٌ لم يفكّر قبلاً بأنّه قد يصعد إلى السماء وقد يُحاسَب بموجب المعايير نفسها التي يحاسَب بها الأقوياء، وكان كلّ ما يُرجى من تقديم الأضاحي للآلهة التخفيف من عناء الحياة ومصاعبها على هذه الأرض حصراً. والحال أنّ الحساب الأخير والجنّة والنار وما بعد الحياة هي، بمعنى ما، طلب لعدالة تعوّض عن نقص العدالة على الأرض.

بالطبع لم يؤدّ «العصر المحوريّ» إلى إلغاء الأضاحي للمعابد وممارسات أخرى من هذا القبيل، إذ أنّ أموراً كهذه تستلزم قروناً، لكنّ نوعاً جديداً من الممارسة الدينيّة بدأ يشقّ طريقه، ومعه بات ما يحصل في المعبد ليس الشيء نفسه الذي يحصل في حياة البشر.

ومع الحاجة إلى معرفة «أسرار» الكون والدين بدأت تظهر طبقة الأخصّائيّين. ففي الهند، تأثّرت الهندوسيّة، مع أنّها أقدم عهداً من «العصر المحوريّ»، بجديد العصر المذكور. هكذا نشأ «الغورو»، وهو يختلف عن الكاهن الذي يقتصر دوره على المعبد القديم وتقديم الأضاحي.

فـ«الغورو» يعلّم أناساً ليسوا بالضرورة دينيّين كيف يُمَتِّنون علاقتهم بالمرجعيّة الأخيرة والنهائيّة بما يُكسب حياة صاحبها إضافة نوعيّة. والشيء نفسه يصحّ في اليهوديّة، حيث نشأ التقليد الحاخاميّ، والحاخام، كالغورو، يعلّم الناس الزمنيّين كيفيّة التوافق مع الله.

وبسبب نشوء المتعالي المجهول، ولد تحوّل أنثروبولوجيّ يعيد تعريف البشر بما يتعدّى دورهم الاجتماعيّ ومظهرهم الطبيعيّ، مركّزاً على الروح والنفس بوصفهما جزءاً من «الخارق» أو امتداداً له. هكذا بات المجتمع الإنسانيّ، للمرّة الأولى في التاريخ، موضوعاً للتحليل التأمّليّ.

لقد ذهب بعض النقّاد إلى أنّ عيب نظريّة ياسبرز هو كعيب الرأي المسيحيّ – الأوروبيّ في القرن التاسع عشر عن قدوم المسيح بوصفه المنعطف الأكبر في العالم. صحيح أنّ نظريّة «العصر المحوريّ» تأخذ في حسابها الصين والهند وفلسطين وتكسر الواحديّة الأوروبيّة والمسيحيّة.

إلاّ أنّ نقّادها رأوا أنّها ترى العالم بعيون أوروبيّة. فياسبرز، في عرفهم، أزاح المسيح عن الصدارة ليضع فيها كونفيوشيوس وبوذا وأشعيا وسقراط، إلاّ أنّه لم يتخلّ عن فكرة الصدارة نفسها.

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ياسبرز عن «العصر المحوريّ» و«الرؤية المتعالية» ياسبرز عن «العصر المحوريّ» و«الرؤية المتعالية»



الأسود يُهيمن على إطلالات ياسمين صبري في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 04:11 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
 العرب اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 06:20 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

الحكومة والأطباء

GMT 04:11 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 07:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 11:18 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

رسميًا توتنهام يمدد عقد قائده سون هيونج مين حتى عام 2026

GMT 13:28 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

5 قتلى جراء عاصفة ثلجية بالولايات المتحدة

GMT 19:53 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

أوكرانيا تعلن إسقاط معظم الطائرات الروسية في "هجوم الليل"

GMT 10:05 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

شركات الطيران الأجنبية ترفض العودة إلى أجواء إسرائيل

GMT 19:00 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

أوكرانيا تؤكد إطلاق عمليات هجومية جديدة في كورسك الروسية

GMT 10:12 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

انخفاض مبيعات هيونداي موتور السنوية بنسبة 8ر1% في عام 2024

GMT 11:11 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

إقلاع أول طائرة من مطار دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد

GMT 18:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

هوكستين يؤكد أن الجيش الإسرائيلي سيخرج بشكل كامل من لبنان

GMT 07:25 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

استئناف الرحلات من مطار دمشق الدولي بعد إعادة تأهيله

GMT 10:04 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

البيت الأبيض يكتسى بالثلوج و5 ولايات أمريكية تعلن الطوارئ

GMT 08:21 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

أحمد الفيشاوي يتعرّض لهجوم جديد بسبب تصريحاته عن الوشوم

GMT 06:39 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

زلزال قوي يضرب التبت في الصين ويتسبب بمصرع 53 شخصًا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab