أبعد من 43 و48

أبعد من 43 و48...

أبعد من 43 و48...

 العرب اليوم -

أبعد من 43 و48

حازم صاغية
بقلم :حازم صاغية

ذاكرات البشر تضعف مع الزمن. هذا بديهيّ. الأرقام والتواريخ والأسماء أكثر ما يعلن ضعفها. مع هذا، يبقى مستغرباً أن ينسى قطب سياسيّ تاريخ استقلال بلده. في أسوأ الأحوال، تذكّرُ تلك المناسبات يُعدّ جزءاً من عدّة شغل السياسيّين. فكيف وأنّ السياسيّ المقصود يتعهّد، صبح مساء، حماية هذا البلد والذود عن كرامته، ناهيك عن امتلاكه الدائم فصلَ المقال في أمور تمتدّ من القضاء والجيش إلى الاقتصاد والعلاقات الخارجيّة...
لهذا فما حصل قبل أيّام يبقى مهمّاً، لا يمرّ عليه الزمن العابر. دلالته زمنها مديد. إنّه ينمّ عمّا يتعدّى الظاهر ويتجاوز الهفوة. فما فعله أمين عام «حزب الله» في خطابه، وهو فعلَه مرّتين متلاحقتين، قبل أن تصله ورقة صغيرة تقول إنّ استقلال لبنان حصل في 1943، وليس في 1948، يدلّ على أنّ لبنان ليس من عدّة شغل السياسيّ الناسي. ما فاتَهُ معلومةٌ يعرفها كلّ تلميذ أنجز المرحلة الابتدائيّة، هو الذي، والحقّ يقال، لا تنقصه المعرفة بأشياء كثيرة، وهو بالتأكيد أعرف السياسيّين اللبنانيّين وأكثرهم انكباباً على عدّة شغله.
استقلال لبنان، مع هذا، ليس في عداد معلوماته.
قد يُفهم من هذا الكلام دعوةٌ إلى المبالغة في الوطنيّة، وإلى التعلّق الإنشائيّ بالفولكلور القوميّ من أعياد وأعلام ومناسبات وأهازيج. المقصود ليس هذا بتاتاً. نسيانٌ كهذا، مصدره مزاجيّ أو فرديّ أو كاره للسياسة أو ذو تطلّع إنسانيّ عابر للأوطان، محمود ومحبّذ. لكنّ ما فعله الأمين العامّ، وهو بالغ التسييس، ليس أنّه نسي، بل أنّه استبدل: لقد تذكّر 48 حيث كان يتحدّث عن 43. و48 هي السنة التي قامت فيها إسرائيل، وسمّتْها سنة استقلالها، على حساب الشعب الفلسطينيّ ونكبته.
هذا الاستبدال يستأنف تقليداً سابقاً على «حزب الله» لا يرى استقلال لبنان إلاّ من ثقب الصراع مع إسرائيل والغرب. لبنان واستقلاله، تبعاً لهذا التقليد، لا معنى لهما بذاتهما، وهما قابلان دائماً للنسيان. إنّهما خارج عدّة الشغل السياسيّة. الشيء الوحيد الذي يجعلهما قابلين للتذكّر مدى خدمتهما لذاك الصراع، أي أن يكون لبنان ساحته وأن تكون أعياده ومناسباته السياسيّة جزءاً من السرديّة النضاليّة والجذريّة للتاريخ.
لكنّ التقليد المذكور، الذي تعود بدايته إلى أيّام الاستقلال قبل ثمانية عقود، كان يذهب أبعد من ذلك: التشهير بهذا الاستقلال نفسه. فهو، أوّلاً، لا يندرج في التواريخ النضاليّة للمنطقة، علماً بأنّ تلك التواريخ، من عصابات الجنوب اللبنانيّ إلى ثورة العشرين العراقيّة ومعركة ميسلون السوريّة وحروب فلسطين المتتالية، لم تكن للأسف سوى هزائم تتلوها هزائم. وهو، ثانياً، ولحسن الحظّ، استقلال لم يترافق مع دم مسفوك ومع مواكب شهداء يتباهى بها وبهم النضاليّون. هذا علماً بأنّ تجارب بلدان لا حصر لها تعلّمنا أنّه كلّما زاد الدم في معارك الاستقلال زاد الاستبداد الذي يحكم الشعب الذي استقلّ. أمّا ثالثاً، وأيضاً لحسن الحظّ، فهو استقلال لم يقطع لبنان عن الغرب. هو كان ليكون استقلالاً محترماً لو أفضى إلى دولة يقتصر تبادلها التجاريّ مع دول الكوميكون، ولو اقتصرت صداقاته على بلدان المعسكر الاشتراكيّ الذي أصبح أثراً بعد عين؟
هذا التقليد خسر، مع الزمن وتجاربه المُرّة، الكثيرين من مُعتنقيه. هؤلاء راجعوا أنفسهم وتراجعوا وانتبهوا إلى ضرورة أن يكون لهم بلد مستقلّ. لكنّ أحد أسرار «حزب الله»، وهو من عناصر خصوصيّته وجاذبيّته على البعض، يكمن هنا بالضبط:
فهو ليس فقط لم يتراجع، بل جاء يعزّز ويكرّس التقليد القديم بحلّة ولغة مختلفتين: بدل أن يكون الحدث، أي الاستقلال في هذه الحالة، سلميّاً، طافت الشهادة والشهداء بحيث هدّدت بإغراق الحياة اليوميّة، وبدل أن يبقى الحدث فالتاً، غير موصول بالتواريخ السياسيّة النضاليّة، أعيد ربطه بتلك التواريخ التي أضيفت إليها تواريخ ملحميّة دينيّة وطائفيّة، وبدل ضعف الصلة بالاتّحاد السوفياتيّ وكتلته، وُطّدت الصلة بإيران خامنئي وسوريّا الأسد وممانعتهما.
وهنا يكمن وجه القصور الأبرز في شعار «كلّن يعني كلّن» الذي رفعته ثورة تشرين. فإذا كان الآخرون فاسدين وأحزاب سلطة وغير ذلك، إلاّ أنّهم يعرفون تاريخ الاستقلال، ويعتبرون أنّهم يمارسون السياسة، بما فيها النهب والفساد، على قاعدة وطنيّة أنجبها ذاك الاستقلال. إنّه وحده الطرف الذي لا يعرف ذاك التاريخ، ولا يهمّه أن يعرف. لهذا، وإذا استخدمنا لغة ماو تسي تونغ، كان التناقض الرئيسيّ معه هو، فيما التناقضات الثانويّة مع الآخرين.

 

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أبعد من 43 و48 أبعد من 43 و48



الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 05:41 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه
 العرب اليوم - ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه

GMT 09:35 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

طريقة طهي الخضروات قد تزيد خطر الإصابة بأمراض القلب
 العرب اليوم - طريقة طهي الخضروات قد تزيد خطر الإصابة بأمراض القلب

GMT 08:49 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

بوستر أغنية مسابقة محمد رمضان يثير الجدل
 العرب اليوم - بوستر أغنية مسابقة محمد رمضان يثير الجدل

GMT 07:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 15:04 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تعلن أعداد السوريين العائدين منذ سقوط نظام الأسد

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

محمد صبحي يواجه أزمتين قبل نهاية العام ويكشف تفاصيلهما
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab