إنّها ثقافة سياسيّة طُرد منها المدنيّون

إنّها ثقافة سياسيّة طُرد منها المدنيّون

إنّها ثقافة سياسيّة طُرد منها المدنيّون

 العرب اليوم -

إنّها ثقافة سياسيّة طُرد منها المدنيّون

بقلم :حازم صاغية

في عقود سابقة كان «الانعزاليّون» في لبنان يوصفون بـ»الحفنة» و»الزمرة» التي تستمدّ أسباب قوّتها من «عمالتها للاستعمار». وكان تعبير «الانعزال» نفسه مقصوداً به الإيحاء بالضآلة وبالهامشيّة. فـ»الزمرة» تلك إنّما هي انعزال عن حالة جماهيريّة جارفة ومُجمعة على زجّ لبنان في المعارك المصيريّة الكبرى.

والآن، وربّما بفعل الشعبيّة التي أظهرتها حركتا 14 آذار 2005 ثمّ 17 تشرين الأوّل 2019، بات الناطقون بلسان المعارك المصيريّة في الصحافة والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعيّ، يُقرّون بأنّ من يخالفونه الرأي في لبنان هم «نصف سكّانه»، وعند بعضٍ منهم، هم «أكثر من نصف سكّانه». مع هذا فتغيير التسمية لم يغيّر الوصف، إذ بات هؤلاء «جبهة إسناد للعدوّ الصهيونيّ». أهمّ من هذا، أنّ تغيير التسمية لم يغيّر السلوك، إذ السياسة التي يتّبعها دعاة معارك المصير ثابتة خالدة لا تحول ولا تزول، سيّان أكان في مواجهتها «حفنة» و»زمرة» أم كان في مواجهتها «أكثر من نصف السكّان».

ووراء هذا الثبات عوامل كثيرة بطبيعة الحال، لكنّ واحداً منها أنّ المواطنين المدنيّين لا يُحسب لهم أدنى حساب. فما دام الأخيرون مدنيّين، أي غير مسلّحين، وكانوا بالتالي أضعف من أن يهدّدوا قوّة الطرف المسلّح، أو يتحدّوه، جاز المضيّ في نهج لا يأخذهم بعين الاعتبار. أمّا الديمقراطيّة، بوصفها ناظماً للعلاقة معهم، فحديث خرافة تلهج به الألسنة إلاّ أنّ النوايا تسخر منه.

وعدم الاكتراث بالمدنيّين، كثيرين كانوا أم قليلين، تقيم فيه بذور جريمة محتملة دائمة بحقوق الإنسان، لأنّ مَن لا يُكترث بهم لدى اتّخاذ قرار الحرب لن يُكترث بهم عند مباشرة الحرب وتساقط القتلى وتوسّع نطاق الدمار. أمّا ما يتذرّع به أصحاب هذا السلوك تبريراً لسلوكهم فلا يعدو كونه فكرة ينعتونها بالصواب، بل بالقداسة. لكنّ كلُّ فكرة قابلة لأن تُثبت الأيّام خطأها، بحيث لا يتبقّى لنا، والحال هذه، غير إهالة التراب على الراحلين والترحّم عليهم بوصفهم ضحايا الخطأ الذي انطوت عليه فكرة الذين فكّروا.

والاستخفاف بالمدنيّين له في ثقافتنا السياسيّة السائدة أشكال كثيرة أخرى، عهدْنا بعضها في سوريّا حين كان السكّان الذين تتساقط عليهم البراميل يوصفون بأنّهم قوى تتصدّى للمؤامرة على شعب سوريّا. ويُلاحَظ اليوم كم يُستَفزّ دعاة المعارك المصيريّة عند الحديث عن الألم الذي يصيب مواطني غزّة المدنيّين بسبب الضربات الإسرائيليّة المجرمة، أو لدى التقاط محطّة تلفزيونيّة صورة لطفل يبكي أو لامرأة أو رجل تمكّنَ منهما اليأس والإحباط. فكلّ حديث أو صورة من هذا الصنف يُرذَلان بوصفهما شراكة في المؤامرة على غزّة وعلى صمودها. ذاك أنّ إبداء الألم لا يكون مقبولاً إلاّ في حدود قابليّته للتوظيف السياسيّ، أي لتوكيد الوحشيّة الإسرائيليّة وإدانتها. أمّا ما خلا ذلك، ودرءاً للمؤامرة وللتخاذل، فإنّ الطفل الغزّاوي إنّما يزهو فرحاً بسبب تضوّره جوعاً، فيما لا تعبّر الأمّ الحامل التي تُجهضها عمليّة جويّة إسرائيليّة إلاّ عن بهجة ومتعة لا توصفان.

وفي هذا، ترتسم صورة للبشر، كما يتصوّرهم دعاة القضايا المصيريّة، بوصفهم مقاتلين فحسب. لا الألم يؤلمهم ولا الموت يخيفهم ولا الجوع والعطش يهدّان عزائمهم، أمّا الذين يؤلمهم الألم ويجهرون بذلك فلا يستحقّون الحياة أصلاً، مثلهم مثل أطفال إسبارطة الذين كانوا يُعرّضون لامتحان الطبيعة والوحشة، فإذا كُتبت لهم الحياة باتوا في شبابهم محاربين، وإذ قضوا تكفّلت آلة الإنجاب تعويضنا خسارتهم. وآلة الإنجاب هي المرأة التي لا معنى لها في مجتمع حربيّ خارج هذه الوظيفة ما دام أنّها ليست محاربة.

فالمدنيّ، في آخر المطاف، لزوم ما لا يلزم، ومَن يساوره الشكّ فليسأل المثقّفين ممّن يُفترض أنّهم خزّان النقد لأخطاء أهلهم، بما فيها أخطاؤهم في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيليّة. بيد أنّهم، وعلى عكس المفترض، تحوّلوا ويتحوّلون كتيبةً في جيش المجتمع العسكريّ المتطلّب للحرب. ومن يتطلّب الحروب شرطاً لوجوده ولاستمراره يكون يتطلّب العدوّ على نحو دائم، لأنّه ببساطة لا حرب من دون عدوّ.

في الأحوال كافّة فإنّ البشر، كما ترسمهم اللوحة النضاليّة، شيء آخر غير البشر كما هم فعلاً. فبشر الحالة النضاليّة الذين لا يفعلون غير القتال والصمود، ولا يعلنون ألمهم أو جوعهم إلاّ لفضح العدوّ وأفعاله، بشر غير موجودين، وإذا وُجدوا كانوا كائنات مخيفة للبشر الفعليّين، أو كائنات لا تملك في مواجهة الحياة سوى الانتحار.

وإبّان معركة أوكيناوا، آخر معارك الحرب العالميّة الثانية، نُظر باحتقار إلى كلّ تعبير عن الحزن والألم، وقيل إنّ تعابير كهذه تجافي روح أمّة حربيّة مقاتلة كالأمّة اليابانيّة. أمّا أحد الشعارات الشعبيّة الذي رُفع حينذاك فيدعو إلى انتحار الأمّة اليابانيّة كلّها لأنّنا «كلّنا كاميكازيّون».

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إنّها ثقافة سياسيّة طُرد منها المدنيّون إنّها ثقافة سياسيّة طُرد منها المدنيّون



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 20:15 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل
 العرب اليوم - جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل

GMT 13:23 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو وميسي على قائمة المرشحين لجوائز "غلوب سوكر"
 العرب اليوم - رونالدو وميسي على قائمة المرشحين لجوائز "غلوب سوكر"

GMT 22:43 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
 العرب اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 03:43 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

ليلة ليلاء؟!

GMT 07:03 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 03:23 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

تناول المكسرات يوميًا يخفض خطر الإصابة بالخرف

GMT 08:21 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

ذكرى عيد الجهاد!

GMT 13:15 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 7 جنود إسرائيليين في تفجير مبنى مفخخ جنوب لبنان

GMT 12:42 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد تكالة يُنتخب رئيساً للمجلس الأعلى للدولة في ليبيا

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

ريال مدريد يدرس ضم أرنولد من ليفربول في يناير القادم

GMT 08:02 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الرياض... بيانٌ للناس

GMT 13:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

برشلونة يعلن إصابة أنسو فاتي وغيابه 4 أسابيع

GMT 11:44 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

"فيتنام أيرلاينز" بصدد شراء 50 طائرة في النصف الأول من 2025

GMT 20:36 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

إسعاد يونس تتمنى أن يجمعها عمل مسرحي بشريهان

GMT 10:43 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

عملة البيتكوين تقترب من 90 ألف دولار بعد انتخاب ترامب

GMT 10:41 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

ليفربول يفقد أرنولد أسبوعين ويلحق بموقعة ريال مدريد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab