في البكاء الزائف على بيروت ولبنان

في البكاء الزائف على بيروت ولبنان

في البكاء الزائف على بيروت ولبنان

 العرب اليوم -

في البكاء الزائف على بيروت ولبنان

بقلم - حازم صاغية

تباكى على بيروت، وعلى لبنان، كثيرون من أولئك الذين نعرفهم جيّداً. أولئك الذين سرقوه وأولئك الذين تعاقبوا على حكمه بطريقة أقرب إلى السرقة ممّا إلى السياسة. أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله، كان الاستثناء الأبرز بين رموز السلطة بالمعنى الواسع لكلمة سلطة. حتّى التظاهر بالبكاء لم يجد مبرّراً له. لقد شغله الاحتفال بذكرى ما سماه «انتصار حرب تمّوز». همُّه دائماً في مكان آخر. ضحكته غطّت وجهه.

خارج دائرة السلطة، وفي العالم العربي أيضاً، شارك في البكاء كثيرون صادقون، وكثيرون كاذبون. الكاذبون هم الذين لم يَكنّوا للبنان أي ودّ، ولم يروا فيه مرّة أكثر من مَعبر إلى هدف آخر وإلى قضيّة أخرى.

هؤلاء رفضوا المعنى الذي رمز إليه لبنان الفكرة، أي افتراض أنّ التقدم يأتي من التعدّد، ومن الصلة بالعالم الخارجي، خصوصاً الغرب الديمقراطي، ومن محاولة الاقتداء بالديمقراطية البرلمانية، مع الحرص على تجنّب الانجراف العسكري المباشر في النزاعات الحربية. في هذه الخانة، يمكن أن نضيف إلى ما مثّله هذا اللبنان تطوّرات متفاوتة ومؤسّسات عرفتها المنطقة في تاريخها الحديث، كالبرلمانات والإدارات التي نشأت وعاشت إلى أن أطاحتها الانقلابات العسكرية، وقبلها شقّ قناة السويس أو إنشاء جامعة أميركية في بيروت. وبالطبع تندرج في الخانة إيّاها الثورات العربية الملوّنة التي طلبت، وما زالت تطلب، الحرية والكرامة الإنسانية.

خصوم هذا المفهوم تبنّوا مفهوماً آخر للتقدّم مفاده أنّ مناوأة الغرب و«التبعيّة» هو المدخل إلى المستقبل والمعنى. لبنان «المتغرّب» بدا لهم شيئاً كريهاً. ألم الشعب الفلسطيني عثروا فيه على ضالّتهم لاستئناف صراع دهري يأبى الحلّ ويحتقر السياسة. أنظمة الاستبداد الأمني التي تعسكر المجتمع وتصبّه في قالب واحد مُحكَم، وفي هويّة نهائيّة ناجزة، بدت لهم شيئاً يتراوح بين التمجيد والتحمّل: بعضهم مجّدها كأداة للخلاص، وبعضهم تحمّلها كضريبة ينبغي دفعها لبلوغ الخلاص. في الحالات جميعاً، كانت هذه الأنظمة مصدر الرصاص الذي يُطلق على لبنان.

منذ نشأة البلد أعلنت تلك العواطف عن نفسها بلا تمويه. في 1925، إبّان انتفاضة سلطان باشا الأطرش في جنوب سوريّا، عبّر عنها خير تعبير «الشاعر القرويّ» رشيد سليم الخوري، العروبي المتحمّس، الذي لم يَرقْه استنكاف اللبنانيّين عن القتال إلى جانب الأطرش:
«لبنان يا لبنان بل ما ضرّني
لو قلتُ يا بلداً بلا سكّانِ».
وهو، للسبب هذا، تمنّى «لأهله»، أهل لبنان:
«الموت المعجّلْ
بحدّ السيف من أيدي الأعادي».
وبسبب طبيعتها الملتهبة، وجدت هذه النزعة أهمّ ملاجئها في الشعر. في 1950 مثلاً، وفي رثائه السياسي اللبناني عبد الحميد كرامي، لم يجد الشاعر العراقي محمّد مهدي الجواهري ما يقوله أفضل من هجاء البلد الذي انتمى إليه كرامي. لقد هجا «عصابة»
«ينهى ويأمرُ فوقَها استعمارُ
واستنجدتْ، ودمُ الشعوب ضمانُها
ورفاهُها، فأمدّها الدّولارُ».

الجواهري الذي عُدّ لسنوات مديدة صديق الحزب الشيوعي العراقي، قضى سنواته الأخيرة في دمشق مادحاً حافظ الأسد. شعوب المنطقة كلّها تتعطّش اليوم لـ«الدولار».

لقد نافست الأشعارَ هذه سخرية بدائية من التحدّث بلغات أجنبية، ومن حريات نسبية حظيت بها المرأة اللبنانية فأُخذت عليها كمأخذ أخلاقي، ومن رخاوة يأنفها الطبع العسكري، وطبعاً من بعض رموز البلد ووطنيّته التي تشبه رموز سائر البلدان، لا هي أفضل منها ولا هي أسوأ. الكلام عن نموذج تعدّدي في الشرق الأوسط يناقض النموذج الإسرائيلي لم يُثر إلاّ القهقهة.

أبعد من السخرية والأشعار كانت الأفكار. أهمّ تلك الأفكار أنّ الانتخابات والحريات والتعليم ومدى حضور الطبقة الوسطى أمور لا تستحقّ أن تُحسَب. ما يُحسَب هو العبور من «الساحة اللبنانية» إلى مكان آخر: قبلاً إلى «تحرير فلسطين»، ولاحقاً إلى نصرة نظام الأسد في سوريّا. جيشان أريد لهما أن يتمركزا في «هانوي العرب»، المقاومة الفلسطينية في الستينات والسبعينات، ثمّ «حزب الله» منذ الثمانينات. أن يتّفق اللبنانيّون على ذلك أو أن يختلفوا ليس مهمّاً، فلبنان ليس إلاّ الوسيلة التي تبرّرها غاية القتال.

لكنّ البلد الصغير شكّل مصدراً لإرباك مزدوج ألمّ بهذا الصنف من كارهيه: ذاك أنّ الذين يرفضون السلاح ليسوا حفنة عملاء وجواسيس، حسب ما يقوله الكلام السهل. إنّهم أكثريّات شعبية تستند مواقفها إلى خيارات صلبة في السياسة والتاريخ ورؤية المستقبل. ثمّ إنّ كراهية لبنان لا تحول دون تفضيله مكاناً للعيش، وبعض العيش هو الفرصة المتاحة للتعبير عن تلك الكراهية. والحال أنّ أكثر الأفكار بؤساً هي التي تعتبر العيش عاملاً لا يُحسب مُفضّلة، لأسباب آيديولوجية، البلدان التي يهرب منها المعارضون (ألمانيا الشرقية والاتّحاد السوفياتي السابقان وكوريا الشماليّة والصين وروسيا اليوم) على البلدان التي يهربون إليها. طلب الحرية وطلب العلم أو العمل أمور لا تستوقف الآيديولوجيّين.

وبالفعل كانت تلك الكراهية آيديولوجيّة بقدر ما كانت بائسة. تباكيها اليوم بائس بدوره، إلاّ أنّ حظّها كبير: فبعدما هزمت ثورة الحرية في سوريا، هزمت حصن الحرية في لبنان. ونحن الآن جميعاً سواسية في الخراب العميم كأسنان المشط. لكنّنا بالتأكيد سنحرّر فلسطين!

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في البكاء الزائف على بيروت ولبنان في البكاء الزائف على بيروت ولبنان



الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 06:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024
 العرب اليوم - المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 06:36 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية المفضلة للشباب خلال عام 2024
 العرب اليوم - الوجهات السياحية المفضلة للشباب خلال عام 2024

GMT 05:41 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه
 العرب اليوم - ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه

GMT 06:33 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات
 العرب اليوم - ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 12:58 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

كريم عبد العزيز يفاجئ الجمهور في مسرحيته الجديدة
 العرب اليوم - كريم عبد العزيز يفاجئ الجمهور في مسرحيته الجديدة

GMT 09:11 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

إرهابى مُعادٍ للإسلام

GMT 21:53 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

زينة وباسم سمرة معاً في الدراما والسينما في 2025

GMT 17:11 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

عبدالله بن زايد يبحث آخر التطورات مع وزير خارجية سوريا

GMT 09:50 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

أزمات قانونية تنتظر عمرو دياب في العام الجديد

GMT 09:42 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

كيف نتعامل مع سوريا الجديدة؟

GMT 21:50 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

دنيا سمير غانم تشارك في موسم الرياض بـ مكسرة الدنيا

GMT 00:35 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

لبنان يتعهد بالتعاون مع "الإنتربول" للقبض على مسؤول سوري

GMT 20:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منتخب الكويت يتعادل مع عمان في افتتاح خليجي 26

GMT 06:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab