حين قصّر المستشرقون

حين قصّر المستشرقون

حين قصّر المستشرقون

 العرب اليوم -

حين قصّر المستشرقون

بقلم : حازم صاغية

لنتخيّل أنّ مستشرقاً (والتعبير لم يعد يُستخدم إلاّ عندنا) كتب في أحد أيّام 2012 فقرة بهذا المعنى:

«وبين الخيارات التي ستواجهها منطقة الشرق الأوسط ظهور أطراف متعصّبة وعنيفة يقف على رأسها زعماء دينيّون وأشباه دينيّين يدعون إلى تطهيرها من الكفّار والمرتدّين والأجانب وكلّ من يخالفهم الرأي والسلوك. وقد لا يتردّد هؤلاء في عدائهم للحداثة، وإن أخذوا ببعض أدواتها وتقنيّاتها، في ممارسة قطع الرؤوس بالفأس والسكّين...».

أو لنتخيّل أنّ مستشرقاً كتب في أحد أيّام 2016: «وقد انقضت خمس سنوات على ثورة وحرب أهليّة، لكنّ رئيس الجمهوريّة الذي ورث الحكم عن أبيه لم يزل متمسّكاً بسلطته، لا يتزحزح عنها، مع أنّها كلّفت حتّى الآن 500 ألف قتيل ونزوح أكثر من نصف سكّان البلد عن بيوتهم، وربعهم عن وطنهم».

أو لنتخيّل مستشرقاً آخر يكتب أنّ الخيار المطروح على السنّة العراقيّين هو بين حكم «داعش» وحكم الميليشيات الشيعيّة، أو يقول إنّ الاستقبال العربيّ للمحاولة التآمريّة الأخيرة في تركيّا كان إمّا التهليل لانقلاب عسكريّ أو التهليل لانقلاب مدنيّ، ما يشير إلى ضعف هائل في الحساسيّة السياسيّة والديموقراطيّة عند العرب.

ما من شكّ في أنّ أيّاً من الفقرات أعلاه كانت لتلقى في أوساطنا من الاستهجان والإدانة ما يرفعها إلى دليل دامغ في كشفه العقليّة الاستشراقيّة، وربّما العنصريّة، في النظر إلينا وإلى ثقافتنا، وفي (لمَ لا؟) تآمر علينا لا يصيبه الكلل.

والحقّ، في المقابل، أنّ مخيّلات المستشرقين ما كان لها، في أكثر أشكالها جموحاً ووحشيّة، أن تتخيّل تنظيماً كـ «داعش» أو حاكماً كالأسد أو سواهما من علامات وعلاقات تسود حياتنا الراهنة. بيد أنّنا، ومنذ عقود، بات ما إنْ يبلغ الفطامَ لنا صبيٌّ حتّى نراه يهجو الاستشراق والمستشرقين بالغلوّ الذي يهجو به الاستعماريّين والصهاينة.

وأغرب ما في الأمر أنّنا نطالب أولئك المستشرقين بمعرفة ودقّة وتسامٍ عن الغرض لا تتوفّر في الإنتاج المحلّيّ عن أحوالنا، وهو المميّز بفقره وتعصّباته. وهذا إنّما يعني أنّ ثقافتنا لم تزوّدنا معايير الدقّة والتسامي التي بموجبها نحاكم الاستشراق. فكأنّنا، والحال هذه، نرسم المستشرقين آباءً لنا يُفترض بهم أن يلمّوا بأحوالنا أحسن ممّا نلمّ نحن الأطفال الذين لا يُسألون في مدى إلمامهم.

فالمهمّ، في آخر المطاف، أنّنا بتنا نمتلك سلاحاً لا يختلف عن نظريّات المؤامرة المألوفة إلاّ في كونه أشدّ حذلقة وثقافيّةً، صدّرته إلينا الجامعات الأميركيّة. والنظريّة هذه لئن خاطبت حساسيّات جريحة عند آخرين من غير العرب والمسلمين، لم يتعافوا من رضّة الغرب، فقد خاطبت أيضاً حساسيّة غربيّة صنعها الشعور بالذنب حيال ذاك الماضي الاستعماريّ.

بطبيعة الحال فإنّ أطنان الكتابة العربيّة وغير العربيّة عن احتمالات الانحطاط التي تواجه الغرب اليوم، وهي احتمالات صحيحة يجلوها صعود دونالد ترامب وبعض أحزاب اليمين المتطرّف، لا تجيز الكلام عن مؤامرة معرفيّة، وبالتالي سياسيّة، ضدّ الغرب. وحين يصدر كلام كهذا يكون موقّعوه أولئك الزعماء الشعبويّين الغربيّين أنفسهم ومن يحيط بهم من كتّاب ومروّجين. أمّا عندنا، فتحوّل شتم الاستشراق إلى ثقافة شعبيّة، آليّة أو بديهيّة، يقول الكثير عن مدى المرض الذي يضربنا في علاقاتنا وفي قناعاتنا، وفي حكم الحاكم ومحكوميّة المحكوم، كما يقول أكثر عن مدى حاجتنا إلى إعفاء النفس من ارتكاباتها وإحالتها على غيرٍ لا يجيد إلاّ التربّص بنا. وكلّما زاد وضعنا سوءاً وتردّياً زاد العداء للآخر، وفي عداده الاستشراق وأهله، والمطالبة بعقابه على النحو الذي أنزله بعض «معتدلينا» بطفل يُدعى عبدالله عيسى، نُسبت إليه الخصومة والشرّ.

والحال أنّ «داعش» وأمثاله، والردود على «داعش»، ما هي إلاّ عصارة عشرات السنين التي قصّر المستشرقون في وصفها وفي اللحاق بما تستقرّ أمورنا عليه اليوم.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حين قصّر المستشرقون حين قصّر المستشرقون



هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 12:56 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

ختام فعاليات أسبوع الموضة في الرياض 2024
 العرب اليوم - ختام فعاليات أسبوع الموضة في الرياض 2024

GMT 13:10 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام
 العرب اليوم - البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام

GMT 13:17 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

طرق العناية بالأجهزة الإلكترونية في المنزل
 العرب اليوم - طرق العناية بالأجهزة الإلكترونية في المنزل

GMT 07:45 2024 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

آثار التدخين تظل في عظام الشخص حتى بعد موته بـ 100 سنة

GMT 04:43 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

الشاهنشاهية بعد 45 عامًا!

GMT 06:30 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

تطوير مادة موجودة في لعاب السحالي للكشف عن أورام البنكرياس

GMT 05:07 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

ليبيا أضحت اثنتين

GMT 05:13 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

مرّة أخرى... الحنين للملكية في ليبيا وغيرها

GMT 17:11 2024 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

أبرز صيحات العبايات المصممة على طراز المعطف لشتاء 2024

GMT 21:15 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

منتخب تونس يعلن إنهاء تعاقده مع فوزي البنزرتي بالتراضي

GMT 21:20 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

كروس يرفض إقامة مباراة وداع خاصة له بعد اعتزال كرة القدم

GMT 19:21 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

عملة "بيتكوين" تترجع بنسبة 2.13% مع ترقب نتائج أعمال الشركات

GMT 16:47 2024 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

أفضل الوجهات السياحية التي تعدّ الأكثر أمانًا في العالم

GMT 21:05 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

نيوكاسل الإنكليزي يعلن تجديد عقد أنتوني جوردون

GMT 16:21 2024 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار في الديكور والتدبير المنزلي لجعل المنزل أكثر راحة

GMT 21:10 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

الترجي التونسي يطيح بمدربه البرتغالي كاردوزو
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab