صدام وضع اللبنة الأولى لعملية الانتهاء من العراق، وهي عملية بلغت سوريا وبلغت لبنان بعدما بدأ المشروع التوسعي الإيراني يأخذ مداه.
انتهى العراق في الكويت. لم تنته الكويت على الرغم من كلّ ما تعرّضت له. فقبل ربع قرن، وضع صدّام حسين حجر الأساس للانتهاء من العراق الذي عرفناه. أعطى إشارة الانطلاق للمأساة التي نشهد اليوم فصولها الأخيرة. يا لها من مأساة من إنتاج إدارة جورج بوش الابن وإخراجها. كان المستفيد الوحيد منها ضيف الشرف الإيراني الذي قبل الدعوة الأميركية إلى المشاركة في حرب العام 2003. أكّدت إيران قبل أيام أنّ العراق، الذي كان، قبل ربع قرن، يريد ضمّ الكويت، صار الآن تحت وصايتها.
كان ذلك بعد تعيين آية الله خامنئي نائبا للوليّ الفقيه في النجف. صار العراق يُحكم من النجف عبر ممثل “المرشد” الإيراني واسمه مجتبى حسيني!
في الثاني من أغسطس 1990، فوجئ العالم بالجيش العراقي يدخل الكويت. ليس معروفا كيف يمكن لبلد احتلال بلد آخر، عضو في الأمم المتحدة وفي جامعة الدول العربية، وكلّ المنظمات الإقليمية المعترف بها دوليا، وإلغائه من الوجود. هل كان ذلك ممكنا في السنوات الأخيرة من القرن العشرين. ربّما اعتقد صدّام حسين، وقتذاك، أنّه بات في استطاعته خلافة الاتحاد السوفيتي القوّة العظمى التي دخلت مرحلة الانهيار السريع مع سقوط جدار برلين في التاسع من نوفمبر من العام 1989.
لم يكن الاحتلال العراقي للكويت الذي وضع المجتمع الدولي حدّا له، بفضل تماسك الشعب الكويتي ووقوفه في وجه الاحتلال أوّلا، مجرّد حدث عابر. انتهى العراق في الكويت. كانت المغامرة المجنونة لصدّام حسين تعبيرا عن حال عربية ترفض الاعتراف بموازين القوى القائم. لم يحسب صدّام، في أي لحظة، حساب أنّ الموازين ليست في مصلحته، وأنّ العالم لا يمكن أن يتركه يحتلّ الكويت بأيّ شكل.
سقط في ما سقط فيه جمال عبدالناصر قبله. كان ناصر يعتقد أنّ في استطاعته رفع نصف طنّ من الأثقال. كان ذلك مجرّد وهم. تصرّف من منطلق ما كان يعتقده، رافضا في أيّ لحظة استشارة اختصاصي يحدّد له بدقة وصدق وزن الحمل الذي يستطيع رفعه. كانت النتيجة هزيمة 1967 التي لا يزال العالم العربي يعاني منها حتّى اليوم. القدس لا تزال محتلة. كذلك الضفّة الغربية. ليس ما يشير إلى أن الجولان يمكن أن يتحرّر يوما. على العكس من ذلك، يمكن أن يأتي يوم يقبل فيه أهل الجولان أن يكونوا مواطنين إسرائيليين بعد كلّ ما شاهدوه من فظائع يرتكبها النظام السوري في حقّ السوريين. هل من مأساة أكبر من هذه المأساة التي تتمثل في بلوغ إسرائيل هدفا، اسمه ضمّ الجولان، سعت دائما إلى تحقيقه، بفضل ما يرتكبه النظام السوري في حقّ شعبه؟
لم يكن صدّام حسين يجهل موازين القوى العالمية والإقليمية فقط. كان يجهل كلّ شيء عن الكويت. لم يستطع في أيّ لحظة إيجاد كويتي على استعداد لتأييد الاحتلال. على العكس من ذلك، وقف الكويتيون صفّا واحدا خلف قيادتهم في مواجهة الاحتلال.
استخفّ صدّام بالكويتيين واستخفّ بالقيادة الكويتية وبما كان يمثله الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، رحمه الله، والشيخ سعد العبدالله، رحمه الله، والشيخ صباح الأحمد، الأمير الحالي الذي كان شيخ الدبلوماسية العربية.
كان هناك عجز عن فهم ماذا يدور في العالم وما هي الانعكاسات التي ستترتب على سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة ووجود قوّة عظمى وحيدة في العالم هي الولايات المتحدة الأميركية.
لم يسأل صدّام نفسه ما الذي سمح له بجعل إيران – الخميني تشرب “كأس السمّ” بعد حرب مع العراق استمرّت ثماني سنوات. كان يجهل حتّى ما هي المملكة العربية السعودية ومن هو الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، الذي كان يمتلك كلّ المؤهلات التي تسمح له بإدراك خطورة احتلال الكويت، وتأثير ذلك على التوازنات الإقليمية وعلى بلده نفسه.
في الثاني من أغسطس 1990، انتهى العراق. ما نشهده اليوم نتيجة طبيعية لتلك المغامرة التي أقدم عليها صدّام حسين، غير مدرك ما هي القدرات الحقيقية لبلده وما هو العالم، على رأسه الولايات المتحدة الأميركية، وما هي طبيعة تلك الإدارة التي على رأسها جورج بوش الأب يعاونه وزير الخارجية جيمس بيكر ومستشار الأمن القومي الجنرال برنت سكاوكروفت.
بعد احتلال الكويت، قرّرت إيران البدء بنهش الجسد العراقي. حاولت الانتهاء من العراق في فبراير من العام 1991، عندما شجعت على “انتفاضة” في المناطق ذات الأكثرية الشيعية في أثناء الانسحاب العراقي من الكويت تحت ضغط التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ممثّلة بالجنرال نورمان شوارتزكوف، أحد أهمّ العقول العسكرية الأميركية. لم تنجح إيران بسبب الوعي الأميركي، وقتذاك، لخطورة ما تفعله في مناطق معيّنة من العراق.
ما عجزت عنه إيران في 1991، في عهد بوش الأب، نفّذته ابتداء من العام 2003، في عهد بوش الابن.
كانت إيران شريكة في الحرب الأميركية على العراق في 2003. ما رفضه بوش الأب، سمح به بوش الابن واستكمله باراك أوباما. كان في الأساس ذلك الخطأ التاريخي الذي ارتكبه صدّام حسين. هذا كلّ ما في الأمر. المنطقة كلّها تدفع الآن ثمن ذلك الخطأ الذي في أساسه الجهل في كلّ شيء، خصوصا في ما يدور في العالم، خصوصا في الداخل الأميركي. ليس صحيحا أنّ السفيرة الأميركية أبريل غلاسبي أوقعت صدّام في الفخ وجعلته يعتقد أنّ لا اعتراض أميركيا على عمل عسكري في الكويت. من يقول ذلك، لم يقرأ محضر الاجتماع الذي يكشف أن السفيرة الأميركية لم تكن تتصوّر، في أي لحظة، أن الرئيس العراقي يمكن أن يقدم على احتلال الكويت.
ربّما ظنّ صدّام أن ليس لدى السفيرة الأميركية موقف واضح وحازم من عمل عسكري يستهدف الكويت. هذا الأمر قد يكون عائدا إلى جهله باللغة الإنكليزية من جهة، وعجز المترجم عن نقل ما قالته، وعنَتْهُ، السفيرة غلاسبي من جهة أخرى. فالمترجم لا يستطيع، دائما، نقل الروح التي تتحكّم بما يقوله الشخص المعني.
في كلّ المنعطفات الأساسية التي مرّت بها المنطقة، كان هناك جهل بموازين القوى. استند العرب إلى الفهم الخاطئ لموازين القوى، كي يخوضوا حرب العام 1948 مع إسرائيل، بعد رفضهم قرار التقسيم. الشيء نفسه حصل في 1967. كرّر صدّام الخطأ ذاته في 1990. لم يسأل العراق خبراء في الشؤون الأميركية ما الذي سيفعله جورج بوش الأب، وكيف سيكون ردّ فعله على احتلال الكويت. هكذا، بكل بساطة، صدّق صدّام حسين ما يقال عن أنّ الجيش العراقي رابع أو خامس جيش في العالم. صدّق ما كان يقوله له حسين كامل الذي تحوّل من مرافق لزوجته وحارس لها إلى زوج لابنته، ثم إلى وزير للصناعات الحربية، وخبير في الشؤون النووية!
وضع صدّام اللبنة الأولى لعملية الانتهاء من العراق، وهي عملية دخلت الآن مراحلها النهائية. هذه العملية تجاوزت العراق. بلغت سوريا وبلغت لبنان بعدما بدأ المشروع التوسّعي الإيراني يأخذ مداه. في أساس كلّ ما جرى تجاهل لموازين القوى، أو على الأصح الجهل بها.