بقلم - خير الله خير الله
ليست "الجمهوريّة الاسلاميّة" في ايران وحدها التي تتجرّأ على الولايات المتحدة وتسعى الى فرض شروطها في ايّ صفقة او اتفاق على ارتباط بملفّها النووي. روسيا أيضا تتجرّأ وتستخف بالإدارة الاميركيّة الحاليّة التي لا تزال إدارة حائرة منذ اليوم الاوّل لدخول جو بايدن البيت الأبيض قبل 13 شهرا.
ربح فلاديمير بوتين حرب أوكرانيا من دون ان يحارب. يمكن القول انّه ربحها بالنقاط بمجرّد حشد الجيش الروسي على حدود أوكرانيا. كان مشهد استقباله الرئيس ايمانويل ماكرون، الذي اجلسه في احدى قاعات الكرملين، في ظلّ تمثال ضخم للقيصر اسكندر الثاني، على الطرف الآخر من طاولة تتميّز بطولها، كافيا لإظهار مدى الاستخفاف الروسي بفرنسا. بل هو استخفاف روسي بأوروبا أيضا. أي نوع من العقوبات تستطيع أوروبا، في مقدمها المانيا، فرضها على روسيا في وقت هي في امسّ الحاجة الى الغاز؟
لم تكن كلّ التهديدات التي صدرت عن الأوروبيين والأميركيين سوى كلام لا مضمون حقيقيا له على ارض الواقع. ليس فلاديمير بوتين في نهاية المطاف سوى ديكتاتور آخر من العالم الثالث مع فارقين كبيرين يلعبان لمصلحته. أولهما امتلاك روسيا للسلاح النووي وللصواريخ الباليستية والأسلحة المتطورّة نسبيا. امّا الفارق الثاني، فهو يكمن في امتلاك روسيا لثروة نفطية وغازيّة تساعد اقتصادها الهشّ في الصمود. تحسّن الوضع الاقتصادي الروسي تحسّنا كبيرا في الفترة الأخيرة في ضوء ارتفاع سعر النفط والغاز. جعل ذلك بوتين يتصرّف بطريقة الواثق من نفسه أكثر من ايّ وقت.
أعاد بوتين العالم الى ايّام الحرب الباردة بعد ثلاثين عاما بالتمام والكمال على تفتت الاتحاد السوفياتي وإعلان ذلك رسميّا أوائل العام 1992 بعد اعتراف ميخائيل غورباتشوف أواخر العام 1991 بانهيار القوّة العظمى الثانية في العالم. المفارقة انّ خطاب غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، لم يلق في حينه الاهتمام العالمي المتوقّع، بل مرّ مرور الكرام في مرحلة حفلت بالأحداث منذ انهيار جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989 وبدء دول أوروبا الشرقيّة تتصرّف بمعزل عن الأخ الأكبر في موسكو.
كشف بوتين انّه سياسي محنّك يلعب أوراقه بشكل جيّد. من ورقة امتلاك السلاح النووي والصواريخ البعيدة المدى... الى ورقة النفط والغاز، دفع بوتين في اتجاه تأكيد القدرة على المناورة. حرص على الاجتماع بماكرون، الذي لم يستخدم معه أي لياقة ذات طابع ديبلوماسي، بغية السماح له بلعب دور على الساحة العالميّة. اجتمع بوتين بالرئيس الفرنسي بعيد عودته من بيجينغ حيث التقى الزعيم الصيني شي جينبينغ الذي لديه حسابات يريد تصفيتها مع اميركا. كان اللقاء بين بوتين وشي بمثابة رسالة فحواها ان الغرب لن يستطيع بعد الآن اللعب على وتر التنافس الصيني – الروسي كما كان يفعل في الماضي القريب. لم يذهب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الى بيجينغ في العام 1972 برفقة وزير الخارجيّة هنري كيسينجر الّا من اجل زيادة الهوة بين الاتحاد السوفياتي والصين الشعبيّة والاستفادة من التناقضات بينهما إلى ابعد حدود.
فوق ذلك كلّه، لدى فلاديمير بوتين، الذي يهيء، منذ الآن، الانتخابات الرئاسيّة للعام 2024، هاجس اثارة المشاعر القوميّة الروسية لدى شعبه. بالنسبة اليه، توفر كلّ زيارة لمسؤول اجنبي فرصة كي يظهر عظمة روسيا وتاريخها العريق. ليس صدفة ان يهيمن تمثال القيصر اسكندر الثاني على القاعة وان يكون التمثال قبالة ماكرون. هذا ما لاحظه البحث والأستاذ الجامعي الفرنسي فابريس بالانش الذي علق على المشهد في تغريدة له بقوله: "إسكندر الثاني هو القيصر الإصلاحي الذي الغى العبودية وحدّث روسيا، لكنه القيصر الذي قمع بالدمّ ثورة الشعب البولندي في العام 1863... تحت انظار الامبراطور الفرنسي نابوليون الثالث (الملقب بنابوليون الصغير) الذي لم يتجرّأ على رفع اصبعه". قبل ذلك، كما يذكر الباحث الفرنسي، استقبل بوتين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في آذار – مارس من العام 2020 في قاعة زينها تمثال للامبراطورة كاترين الثانية. الهدف من وجود التمثال "تذكير اردوغان بانّ تركيا لم تربح أي حرب خاضتها مع روسيا في يوم من الايّام".
ما الذي يريده بوتين، إضافة بالطبع الى اثارة الحماسة لدى الروس وتذكيرهم بانّ في استطاعته استعادة امجاد الاتحاد السوفياتي؟ عمليا، يريد الرئيس الروسي توسيع منطقة النفوذ الروسيّة في أراض على حدود بلده وابعد من ذلك. نجح في تحقيق هدفه عندما استعاد شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في العام 2014 ونجح في قمع الثورة الشعبيّة التي قامت في كازاخستان المجاورة قبل اشهر قليلة. نجح في إيجاد موطئ قدم لروسيا في المياه الدافئة عندما تدخل مباشرة في سوريا ابتداء من أيلول – سبتمبر 2015 من اجل إبقاء بشار الأسد في دمشق. صارت لروسيا قواعد عسكريّة دائمة في طرطوس واللاذقيّة.
لا شكّ ان دولا اوروبية عدّة تراجع حاليا حساباتها، خصوصا اذا تبيّن ان بوتين سيحقق عبر حشوده العسكرية ما يطمح اليه في أوكرانيا. بدل انضمام أوكرانيا الى حلف الأطلسي (ناتو) سيتم التوصل الى تسوية ترعاها أوروبا وتوافق عليها إدارة بايدن تجعل من أوكرانيا دولة محايدة تراعي الجار الروسي الى ابعد حدود. ستصبح أوكرانيا "دولة ذات سياسة محدودة"، كما كانت عليه دول أوروبا الشرقيّة قبل انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينات القرن الماضي.
لا شكّ ان فلاديمير بوتين نجح في حربه الأوكرانية من دون ان يخوضها. هل يربح يوما حربه على الفقر والتخلف في داخل روسيا نفسها؟ في النهاية لم تقدّم روسيا يوما ايّ خدمة لبلد اجنبي وجدت فيه باستثناء المشاركة في حرب على الشعوب التي تريد التحرر من حكام ديكتاتوريين، كما الحال في سوريا. امّا في روسيا نفسها، فشل بوتين اقتصاديا واجتماعيا على كلّ صعيد. لا تنتج روسيا برادا او غسالة او سيارة. كلّ ما في المنازل الروسيّة مستورد من الخارج. الى ذلك، يعاني المجتمع الروسي من تحوله الى مجتمع عجوز...
يهتمّ بوتين بأمور كثيرة. يهتمّ بنفسه وتلميع صورته. لا شكّ انّه سياسي حاذق، لكن السؤال الذي سيظلّ يطرح نفسه هل لدى روسيا ما تتكل عليه اقتصاديّا في المستقبل البعيد المدى غير النفط والغاز؟