ليس تشكيل لجنة فرنسيّة – جزائرية لدراسة الخلافات في مجال البحث في التاريخ المعقّد بين البلدين سوى دليل على استمرار حوار الطرشان. ليس في استطاعة فرنسا الإعتذار، نظرا إلى أنّ استعمارها الطويل للجزائر لم يكن مقتصرا على جرائم ارتكبت من جانبها.
في المقابل، ليس في استطاعة النظام الجزائري التعاطي مع الواقع، من دون البقاء في اسر عقده من جهة ورفض التطلّع إلى المستقبل من جهة أخرى. بكلام أوضح لا يستطيع النظام الجزائري الإستغناء عن الإستثمار في تاريخ العلاقة مع السلطة الإستعمارية الفرنسيّة، خصوصا أن ليس ما لديه ما يكفي من الشجاعة للإعتراف باخطاء ارتكبت قبل الإستقلال وبعده. هذا لا يعني إنكارا لتضحيات بذلها جزائريون طوال سنوات من أجل التخلّص من الإستعمار ومن حلم فرنسا بأن الجزائر أرض فرنسيّة.
ليس ما يؤكّد أنّ اللجنة الفرنسيّة – الجزائرية ليست سوى استمرار لحوار الطرشان، اكثر من الخلاف القائم في شأن هل هناك أمّة جزائريّة أصلا أم لا؟ كان الرئيس ايمانويل ماكرون في غاية الصراحة عندما تساءل العام الماضي في لقاء مع شبان فرنسيين من أصل جزائري: هل كانت هناك أمّة جزائرية قبل مرحلة الإستعمار التي بدأت في العام 1830؟ سيكون من الصعب، بل من المستحيل اثبات وجود مثل هذه الأمّة... على الرغم من أن النظام الجزائري مصمم على اختراع تاريخ خاص به.
ذهب ماكرون إلى الجزائر في أوّل زيارة للخارج منذ بدء ولايته الرئاسية الثانية. لن تقدم الزيارة ولن تؤخّر، على الرغم من كلّ النيات الطيّبة. ستساعد، بالكاد، في ترطيب الأجواء وتسوية بعض الأمور من نوع زيادة عدد التأشيرات للجزائريين الراغبين في زيارة فرنسا. في شأن كلّ ما تبقى، لدى النظام الجزائري حساباته ولدى فرنسا حساباتها. يشمل ذلك في طبيعة الحال ليبيا حيث يدعم النظام الجزائري طرفا معينا في الحرب الأهليّة الدائرة في هذا البلد ولا يستطيع ان يكون وسيطا.
ليس مهمّا عدد أعضاء الوفد الذي يرافق الرئيس الفرنسي ولا نوعيّة أعضاء هذا الوفد من وزراء وكبار الصناعيين. المهمّ هل من مجال للإستثمار في الجزائر حيث لا وجود لمناخ يساعد في إقامة أي مشاريع وفرص عمل من أي نوع؟ الأكيد أن ماكرون يدرك قبل غيره ما هو النظام الجزائري وما طبيعته. عبّر عن ذلك في اللقاء الذي عقده في الثلاثين من أيلول – سبتمبر 2021 مع 18 شابا فرنسيا عاش أهلهم حرب الإستقلال في الجزائر. تحدّث صراحة عن نظام "سياسي – عسكري" قائم على ما سمّاه "الحقد على فرنسا".
ليست زيارة ماكرون للجزائر سوى إضاعة للوقت. يعود ذلك إلى العجز الفرنسي عن فكفكة العقد الجزائرية من جهة وتغيير سلوك النظام من جهة أخرى. ليس الرئيس عبدالمجيد تبون سوى واجهة، لا حول لها ولا قوّة، لنظام عسكري عاجز عن القيام باي عملية نقد للذات. يدلّ على ذلك عدم استيعابه، إلى الآن، للأسباب التي جعلت الجزائر تعتمد على مصدر دخل واحد هو النفط والغاز. سيزداد هذا النظام عنجهية في الوقت الحاضر في ضوء ازمة الطاقة في العالم. لا قدرة لدى المجموعة العسكرية الحاكمة على استيعاب لماذا عليها، في كلّ وقت، شراء ولاء المواطنين لها عن طريق عائدات النفط والغاز؟
حسنا ارتفعت هذه العائدات وباتت أوروبا اكثر حاجة إلى الغاز الجزائري في هذه الأيام. هذه هدنة مؤقتة، على الصعيد الداخلي في الجزائر، في غياب البحث عن حلول بعيدة المدى يطرح فيها النظام على نفسه أسئلة من نوع: كيف جعل الجزائر تمتلك ثروات أخرى غير النفط والغاز، علما أنّها بلد جميل متنوع كان يمكن ان يكون من أهمّ الوجهات السياحيّة للأوروبيين؟
لم يتغيّر النظام الجزائري قيد انملة منذ الإنقلاب العسكري الذي نفذه هواري بومدين في العام 1965. قضى على كلّ ما هو جميل في الجزائر. قضى خصوصا على التنوع في المدينة الجزائرية وعلى ثقافة التسامح، بما في ذلك على الجزائريين اليهود وعلى النظام التعليمي.
بذلت فرنسا محاولات كثيرة استهدفت افهام النظام أنّ ثمّة حاجة إلى اخذ ورد ورؤية الماضي كما هو، بحسناته وسيئاته. كان التقرير الذي وضعه بنجامين ستورا المؤرخ الفرنسي من أصول جزائرية ورفعه إلى ماكرون، في غاية التوازن. أورد بوضوح تفاصيل جرائم ارتكبها الإستعمار كما تحدث عن تجاوزات للثوار وجرائم ارتكبوها في حق فرنسيين كانوا مقيمين في الجزائر وفي حق جزائريين آخرين.
رفض النظام الجزائري هذا التقرير الذي وضعه ستورا. لا يريد السماع بما يمكن وضع الأمور في نصابها، بما يجعل من الجزائر بلدا طبيعيا متصالحا مع شعبه ومع اقرب الناس إليه، أي مع المملكة المغربيّة. يخشى النظام إعادة فتح الحدود المغلقة بين البلدين منذ العام 1994 وذلك كي لا يذهب الجزائريون إلى المغرب ويشاهدوا بأمّ العين الفارق بينه وبين الجزائر. بين بلد طبيعي، استطاع إقامة بنية تحتية لائقة على الرغم من عدم امتلاكه ثروات طبيعية... وبين بلد بدّد ثروته على الشعارات التي رفعتها منذ 1965 مجموعة من الضباط تعتبر نفسها وصيّة على البلد وثرواته النفطية والغازيّة.
كان في استطاعة ايمانويل ماكرون النجاح جزائريا لو استطاع إقناع النظام باتخاذ موقف طبيعي من المغرب ومن اسبانيا التي اعترفت أخيرا بانّ الطرح المغربي في ما يتعلّق باقاليمه الصحراوية، أي الحكم الذاتي الموسّع، هو الطرح الأنسب والأكثر واقعية. ولكن ما العمل، عندما يختبئ النظام الجزائري خلف "بوليساريو" لتبرير حرب الإستنزاف التي يشنها على المغرب من منطلق قضيّة مفتعلة لا اكثر؟
لم يمتلك ماكرون الشجاعة التي امتلكتها اسبانيا في ما يخص التعاطي مع قضيّة الصحراء التي لاهدف منها سوى الإساءة إلى المغرب. ذهب إلى الجزائر العاصمة وزار مدينة وهران. سيعود إلى باريس ببعض التحسّن في العلاقات من دون جواب عن السؤال المركزي: هل يمكن لعسكر الجزائر ان يتغيروا يوما؟