بعد خمسة عشر عاما ونصف عام، ستصدر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في السابع من آب – أغسطس المقبل حكمها في جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، على رأسهم باسل فليحان. وقعت الجريمة في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005.في غياب مفاجأة من النوع الثقيل، يستبعد ان تكشف حيثيات الحكم ايّ اسرار. يعود ذلك الى الى انّ كلّ الظروف التي أحاطت بالجريمة باتت معروفة من خلال ما قدّمه الادعاء العام الذي وفّر في مطالعته معلومات في غاية الدقّة عن الاعداد للجريمة وكيفية تنفيذها وكيفية الاستعانة بشخص اسمه "أبو عدس" تبيّن لاحقا انّه خطف من بيروت الى مكان ما كي يسجل شريطا يتبنّى فيه اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الذي ارتكب جريمة إعادة الحياة الى بيروت ولبنان الى خريطة الشرق الأوسط... ولبنانيين كثيرين الى بلدهم مجددا.
لم يكن "أبو عدس"، الذي اخفي بطريقة ما، وراء الهجوم الانتحاري على موكب رفيق الحريري. من نفّذ العملية الانتحارية كان شخصا آخر ليس معروفا الى الآن من اين جيء به. ما بات معروفا، بالتفاصيل المملّة، ان خليّة تابعة لـ"حزب الله" تولّت مراقبة رفيق الحريري وصولا الى تنفيذ الجريمة في ذلك اليوم المشؤوم الذي شكّل منعطفا تاريخيا على الصعيدين اللبناني والإقليمي. فما قبل غياب رفيق لحريري ليس كما بعده.
بات معروفا أيضا أنّ النظام السوري لم يكن بعيدا عن الاعداد للجريمة. هذا ما سيكشفه الحكم الذي يستند، بين ما يستند اليه، الى شبكة الاتصالات التي كشفت العلاقة بين المجموعات التابعة لـ"حزب الله" التي تولت ملاحقة رفيق الحريري طوال اشهر. كانت هذه المجموعات الحزبية على تواصل دائم مع الأجهزة الأمنية السورية. وهذا امر أكدته المعلومات التي وفّرتها أجهزة مراقبة الاتصالات التي تتمّ بواسطة هواتف نقالة.
تبيّن من المعلومات التي قدّمها الادعاء العام انّ كلّ شيء بات معروفا، ان عن المنفذين وان عن المحرّضين وان عن الذين يعتبرون نفسهم مستفيدين من الجريمة التي مهّدت لها محاولة اغتيال مروان حمادة في الأول من تشرين الاوّل – أكتوبر 2004، وذلك بكلّ ما كان يرمز اليه الرجل. كان مروان حمادة، وهو نائب درزي، قريبا الى حد كبير من رفيق الحريري، كما كان محسوبا سياسيا على وليد جنبلاط. فضلا عن ذلك، كان خال جبران تويني الموجّه الاساسي لجريدة "النهار" بكل ما كانت تملكه في تلك المرحلة من قدرة على التأثير في الرأي العام من جهة وعلى اتخاذ مواقف جريئة وواضحة من الوجود السوري في لبنان من جهة أخرى.
كلّما مرّ يوم تزداد الصورة وضوحا. كلّما مرّ يوم يتكشّف اكثر لماذا كان مطلوبا التخلّص من رفيق الحريري، بصفة كونه رمزا للوطنية اللبنانية ببعدها العربي، ولماذا كانت تلك الحاجة الى مزيد من الجرائم بغية تغطية جريمة لا يمكن تغطيتها بايّ شكل. بعد رفيق الحريري، كانت الحاجة الى التخلّص من كلّ صوت حرّ يمكن ان يشكّل عائقا في طريق وصول لبنان الى ما وصل اليه في السنة 2020، أي الى بلد مفلس يقيم في "عهد حزب الله" في ظلّ حكومة "حزب الله".
اغتيل سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وانطوان غانم وبيار امين الجميّل ومحمد شطح. اغتيل أيضا الرائد وسام عيد الذي استطاع تفكيك لغز الاتصالات. اغتيل اللواء وسام الحسن احد ابرز القيادات الأمنية اللبنانية. كانت هناك محاولتا اغتيال فاشلتين لالياس المر ومي شدياق. كانت الحاجة الى احداث كبيرة أخرى لتغطية الجريمة ومتابعة القضاء على لبنان. افتعل "حزب الله" حرب صيف 2006 مع إسرائيل. وعندما تبيّن ان هذه الحرب لم تكن كافية، بل جاءت بالقرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الامن، كان الاعتصام في وسط بيروت ثمّ غزوة بيروت والجبل من اجل اخضاع السنّة والدروز. جاءت أيضا في هذا السياق حرب مخيّم نهر البارد، وهو مخيّم فلسطيني في شمال لبنان. لم يكن من هدف لحرب مخيّم نهر البارد سوى الصاق تهمة التطرّف بسنّة لبنان واستنزاف البلد اكثر واستنزاف جيشه الوطني وحرف الأنظار عن خطورة وجود سلاح غير شرعي في يد ميليشيا مذهبية تابعة لإيران اسمها "حزب الله".
بين 2005 و2020، عاش لبنان اهوال الاغتيالات والحروب التي أوصلت البلد الى ما وصل اليه، أي الى الوصاية الايرانية. كان رفيق الحريري قادرا على حمل لبنان على كتفيه. تبيّن ان لاحقا، في ضوء التجارب، ان لبنان كلّه لا يستطيع تحمّل غياب رفيق الحريري. لبنان كلّه لا يستطيع إعادة الكهرباء الى البلد في غياب رفيق الحريري الذي استطاع في العام 1998 اضاءة لبنان 24 ساعة على 24، بالفعل وليس بالكلام الذي لا يتقن اعداؤه غيره. يتقن هؤلاء الكلام الفارغ والشعارات... ويتقنون القتل أيضا!
من ربح ومن خسر من اغتيال رفيق الحريري. هذا ما لن تقوله المحكمة عندما ستصدر حكمها. الاكيد انّ لبنان خسر. صار وجود البلد على المحكّ. صار لبنان في مهبّ الريح. لكنّ منفّذ الجريمة الذي يرفض تسليم القتلة، هذا اذا كان لا يزال بينهم احياء، الى العدالة لم يعرف ولن يعرف انّ ما تسبب فيه لا يقتصر على القضاء على لبنان فحسب، بل على سوريا أيضا.
لم تكن طريقة التفكير التي قادت الى اغتيال رفيق الحريري مجرّد جريمة في حق لبنان وكلّ لبناني. كانت اكثر من ذلك بكثير. كانت دليلا على عقم يعاني منه النظام السوري الذي لم يدرك في ايّ وقت النتائج التي ستترتب على اغتيال رفيق الحريري. ارتدت الجريمة التي شارك فيها بطريقة او بأخرى عليه. ما نشهده اليوم يؤكّد ان هذا الكلام ليس مبالغة بايّ شكل بعدما صارت سوريا تحت خمسة احتلالات.
لم يعد لدى بشّار الأسد ما يفرح به عندما تأتيه انباء عن تدهور الوضع في لبنان. فالانهيار اللبناني، الذي في أساسه اغتيال رفيق الحريري، صار انهيارا سوريا أيضا. لم يكن اغتيال رفيق الحريري اغتيالا للبنان فحسب، كان اغتيالا لسوريا أيضا. كان اغتيالا لبلدين في الوقت ذاته.
هذا ما لن تقوله المحكمة الدولية التي ستسمّي فقط القتلة الذين كانوا مجرّد أدوات في جريمة عجزوا عن تقدير ابعادها والنتائج التي ستترتب عليها.