لم يكن تشييع حسن نصرالله، في المدينة الرياضية التي تحمل اسم الرئيس كميل شمعون الذي لعب دوراً أساسيّاً في بناء البنية التحتية للبلد بين 1952 و1958، حدثاً عاديّاً بأيّ مقياس. تكمن المفارقة في تشييع رجل عمل كلّ ما يستطيع من أجل تدمير مؤسّسات الدولة في مكان يقف وراء إقامته رئيس لبناني ترك، بغضّ النظر عن أيّ تقويم لأخطائه السياسية، بصمات على نهوض لبنان الحديث وازدهاره في مرحلة معيّنة. أكان ذلك من مهرجانات بعلبك… إلى كازينو لبنان وكلّ مشروع صغير وكبير في البلد في الشمال والجنوب والبقاع.
بدا التشييع، الذي واكبته طائرات إسرائيلية حلّقت على علوّ منخفض في سماء بيروت، محاولة لتفادي الاعتراف بأنّ تغييراً في العمق حصل في لبنان والمنطقة. في الواقع، حصل الاعتراف بالتغيير ولم يحصل في الوقت ذاته. ليس كافياً الكلام الصادر عن نعيم قاسم في شأن “المشاركة في بناء الدولة اللبنانية” “تحت سقف الطائف” من دون البحث جدّياً في مستقبل السلاح غير الشرعي الذي لا يخدم سوى مشروع توسّعي إيراني لم يعد موجوداً. لم يعد هذا المشروع موجوداً منذ خسرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” كلّ الحروب التي شنّتها على هامش حرب غزّة، وصولاً إلى خسارة سوريا مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو في الثامن من كانون الأول 2024. كان ذلك الفرار نهاية لـ”الهلال الشيعي” الذي يربط طهران ببيروت، وهو هلال لم يعد من مجال لإعادة الحياة إليه على الرغم من العلاقة العميقة بين النظام الإيراني والحكومة العراقية التي على رأسها محمّد شياع السوداني.
يفرض مثل هذا التغيير حصول انقلاب في التعاطي مع كلّ مخلّفات المرحلة التي كان فيها آل الأسد يحكمون سوريا وعينهم على إخضاع لبنان عن طريق إغراقه بالسلاح. السلاح الفلسطيني والميليشيويّ اللبناني في البداية، ثمّ السلاح الإيراني الذي حلّ مكان السلاح الفلسطيني والميليشيويّ، خصوصاً مع تسليم الميليشيات المسيحية سلاحها مع الوصول إلى اتّفاق الطائف.
لم يكن تشييع حسن نصرالله، في المدينة الرياضية التي تحمل اسم الرئيس كميل شمعون الذي لعب دوراً أساسيّاً في بناء البنية التحتية للبلد بين 1952 و1958، حدثاً عاديّاً بأيّ مقياس
لغة خشبيّة
لا يتعلّق الأمر بمواراة الثرى لشخص استطاع في مرحلة معيّنة أن يكون المرجعيّة العليا للقرار السياسي والأمنيّ في لبنان فحسب، بل يتعلّق أيضاً بدفن مرحلة كان فيها “الحزب” لاعباً إقليمياً يمتلك قدرة على التدخّل في سوريا والعراق واليمن وأماكن أخرى مثل غزّة على سبيل المثال لا الحصر.
من الإتيان بميشال عون رئيساً للجمهورية في لبنان في عام 2016… إلى إبقاء بشّار الأسد في دمشق حتّى أواخر 2024، كان “الحزب”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، لاعباً أساسياً في المنطقة. تكرّس ذلك خصوصاً مع وجود امتدادات لـ”الحزب” في العراق الذي أقامت فيه “الجمهوريّة الإسلامية” الإيرانية نظاماً مشابهاً للنظام المعمول به في طهران، مع وجود ميليشيات “الحشد الشعبي” في السلطة.
لا يدلّ على مدى التراجع الذي طرأ على موقع “الحزب” في المعادلة الإقليميّة أكثر من كلام رئيس الجمهورية جوزف عون، لدى استقباله الوفد الإيراني الذي شارك في تشييع حسن نصرالله وابن خالته هاشم صفيّ الدين. تحدّث رئيس الجمهورية اللبنانية عن معاناة لبنان الطويلة من “حروب الآخرين على أرضه”. من الواضح أنّ الوفد الإيراني لم يرِد سماع كلام من هذا النوع. ردّ على رئيس الجمهورية بلغة خشبية عن “دعم لبنان”، لغة تتجاهل دوره في إرسال السلاح إلى ميليشيا مذهبية من نوع “الحزب” بهدف السيطرة على البلد وتحويله مستعمرة إيرانية وقطع علاقاته بعمقه العربي. تتجاهل أيضاً هذه اللغة المستخدمة من إيران دور “الحزب” في اغتيال رفيق الحريري ومجموعة من اللبنانيين الشرفاء، من سمير قصير وجبران تويني… إلى بيار أمين الجميّل ومحمد شطح ولقمان سليم. تجاهل الوفد الإيراني الزائر دور “الجمهوريّة الإسلاميّة” على صعيد تدمير كلّ محاولة لإعادة لبنان إلى ما كان عليه، بما في ذلك مدينة بعلبك، في أيّام كميل شمعون وفؤاد شهاب.
لم يستطع “الحزب”، ومن خلفه إيران، من خلال تظاهرة التشييع، إثبات أنّه في مستوى الحدث الإقليمي والتغيير الكبير الذي يتمثّل في عودة سوريا إلى موقعها دولةً عربيّةً
تغيير مستحيل
لم يستطع “الحزب”، ومن خلفه إيران، من خلال تظاهرة التشييع، إثبات أنّه في مستوى الحدث الإقليمي والتغيير الكبير الذي يتمثّل في عودة سوريا إلى موقعها دولةً عربيّةً بدل أن تكون تابعاً لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. لا يزال “الحزب”، على الرغم من تظاهره بدعم الاستراتيجية الدفاعية، يرفض الحديث عن نزع سلاحه. لا يزال “الحزب” يحلم بتغيير كبير يحصل في سوريا، متجاهلاً أنّ مثل هذا التغيير غير وارد، بقي أحمد الشرع أم لم يبقَ في السلطة، وبقيت سوريا دولة موحّدة أم لم تبقَ.
تجاهل “الحزب”، ومن خلفه “الجمهوريّة الإسلاميّة”، أنّ هناك أكثرية لبنانيّة، من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق تحلم بعودة لبنان إلى ما كان عليه، وليس بعودة سوريا إلى أحضان الضبّاط العلويين الذين استولوا عليها منذ 23 شباط 1966… تمهيداً لسيطرة آل الأسد على البلد وإلحاقه بإيران.
توجد أكثرية لبنانيّة تشمل الشيعة أيضاً، تحلم بتنفيذ القرار 1701 بكلّ بنوده، أي بالتخلّص من سلاح “الحزب” الذي كان في كلّ يوم موجّهاً إلى صدور اللبنانيين. نعم، كان السلاح الإيراني، برضا إسرائيل ومباركتها، موجّهاً إلى الداخل اللبناني قبل وقوع الدولة العبرية في فخّ لعبة “قواعد الاشتباك” مع”الحزب” في جنوب لبنان.
إقرأ أيضاً: الحشد يردّ الاعتبار لـ”الحزب”.. ليلتحق بـ”الأخ الأكبر”
بعد تشييع حسن نصرالله وهاشم صفيّ الدين لا يزال السؤال المطروح نفسه. هل يقتنع “الحزب” بأنّ سلاحه لبّ المشكلة في لبنان الذي عليه تنفيذ القرار 1701 من دون تردّد ومن دون التذرّع بإسرائيل التي ليست جمعية خيريّة مثلها مثل إيران؟ لكن هل يريد “الحزب” انسحاب إسرائيل من النقاط التي تحتلّها… أم يريد مجدّداً استثمار الاحتلال والحلم في الوقت ذاته بتغيير مستحيل في سوريا؟