غيّر فلاديمير بوتين في ضوء الهجوم الذي يشنّه على اوكرانيا العالم. لكنّ المكان الذي تغيّر اكثر من غيره هو أوروبا. سيتوجب على القارة العجوز اعادة حساباتها في شأن كلّ ما له علاقة بأمنها وطبيعة علاقتها بروسيا وكلّ ما هو على ارتباط بكيفية الدفاع عن نفسها مستقبلا. تشعر كل دولة أوروبية في مرحلة ما بعد الحرب الاوكرانيّة بانّها صارت مهدّدة وانّها في حاجة الى إيجاد طريقة لحماية نفسها.
من بين اخطر الصدمات التي تعرّضت لها أوروبا، اكتشافها ان فلاديمير بوتين يستطيع اتخاذ قرارات لا علاقة لها بالمنطق من قريب او بعيد من دون اخذ في الاعتبار للنتائج التي يمكن ان تترتب على ذلك، بما في ذلك على روسيا نفسها وشعبها وعلاقتها بالعالم.
صارت هناك حاجة اكثر من ايّ وقت للتفكير في دور مختلف لحلف شمال الأطلسي الذي سيتوجب عليه ان يأخذ في الاعتبار لدى وضع خططه المستقبلية عوامل عدّة. من بين هذه العوامل، على سبيل المثال وليس الحصر، انّ دول البلطيق لاتفيا واستونيا وليتوانيا ساقطة عسكريا. اكثر من ذلك، إنّ سقوط كييف ومعه اوكرانيا سيعني ان الجيش الروسي صار في قلب أوروبا. لا حاجة الى تكرار انّ لأوكرانيا حدودا مشتركة مع بولندا ورومانيا وهنغاريا ومولدافيا.
من الواضح أنّ أوروبا دخلت مرحلة جديدة تختلف كلّيا عن تلك التي مرّت فيها منذ سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989، بما يشير الى نهاية الحرب الباردة بانتصار العالم الحرّ على الاتحاد السوفياتي.
عاشت أوروبا في ظلّ الحرب الباردة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانيّة في العام 1945. تعايشت كلّيا مع تلك المرحلة التي كانت فيها المانيا مقسّمة، مع عاصمتها برلين، وكانت دول اوروبا الشرقيّة تحاول من دون نجاح يذكر الخروج من تحت الهيمنة السوفياتية والنظام البائس، بكلّ المقاييس، الذي فرضته موسكو عليها.
يتمثّل ما فعله بوتين، في ضوء غزوة أوكرانيا، في القضاء على الامل الذي بزغ من سقوط جدر برلين وإعادة توحيد المانيا، فضلا عن خروج دول أوروبا الشرقيّة الى عالم الحريّة. كان الامل كبيرا بان تنضمّ روسيا نفسها الى العالم الحضاري وان تنفتح على أوروبا وان تتناسى الأوهام التي تتحكّم بعقل رجل مثل فلاديمير بوتين يؤمن بأمجاد الاتحاد السوفياتي وروسيا القيصريّة وبأنّه كان لديه ما يقدّمه الى العالم غير منطق الاحتماء خلف ترسانته النوويّة والسعي الى إقامة قواعد عسكريّة في مختلف انحاء الكرة الارضيّة. ليست هذه القواعد، كما الحال الآن في سوريا، سوى وسيلة لقهر الشعوب وقمعها.
ما الذي ستفعله أوروبا في مرحلة ما بعد غزوة أوكرانيا؟ ستسعى، قبل ايّ شيء آخر، الى التخلص من اعتمادها على الغاز الروسي. ستكون هناك خريطة جديدة لخطوط نقل الغاز في العالم. ستزداد اهمّية كلّ دولة من دول العالم تمتلك في ارضها مخزونا من الغاز. لكنّ الاهمّ من ذلك كلّه انّ أوروبا ستدخل في سباق تسلّح مع ما سيرافق ذلك من إعادة نظر في دور حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي لم يستطع عمل شيء لأوكرانيا لسببين، أولهما انّها ليست عضوا فيه والآخر لانّ ثمة خوفا اميركيا حقيقيا من حرب عالميّة ثالثة. عبّر الرئيس جو بايدن نفسه عن هذا الخوف حديثا.
ستزداد عزلة روسيا، سيزداد اعتمادها على الصين التي اعتمدت نموذجا مختلفا كلّيا على الصعيد الداخلي. تحوّلت الصين، على الرغم من نظامها القمعي، الى قوّة اقتصادية حقيقية. إنّها القوّة الثانيّة في العالم، فيما لم تستطع روسيا الخروج من معادلة الاعتماد على النفط والغاز وتصدير السلاح. الأكيد انّ اوروبا ستعتمد اكثر فاكثر على الولايات المتحدة وستكون سوقا كبيرا للسلاح الاميركي في السنوات القليلة المقبلة. المانيا نفسها ستتغيّر بعد تخصيصها لمئة مليار يورو من اجل تسليح جيشها. ستكون المانيا الجديدة مختلفة كلّيا عن المانيا ما بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية التي فرضت عليها نتائجها تجاهل بناء قوّة عسكريّة ذات مكانة في العالم.
غيّر فلاديمير بوتين العالم، لكنّه غيّر أوروبا على وجه التحديد. سيعتمد الكثير على الكيفية التي ستنتهي بها مغامرته الاوكرانيّة. الثابت ان ليس لدى روسيا ما تقدّمه للشعب الروسي، باستثناء اشعال روح الحماسة الوطنيّة التي يتعلّق بها هذا الشعب. أمّا خارجيا، فلا نموذج روسيّا قابلا للتصدير، خصوصا في ضوء الفشل الاقتصادي لفلاديمير بوتين. لا يشبه فشله سوى فشل النظام الإيراني الذي قام في العام 1979 والذي رفع شعار التخلّص من الدخل الآتي من النفط والغاز. اذا بهذا النظام، بعد 43 على قيامه، في حاجة الى دخل النفط والغاز اكثر من أي ّ وقت. اكثر من ذلك، إنّه يبحث عن طريقة للتخلّص من العقوبات الاميركيّة لعلّ ذلك يساعده في تجاوز ازمته الاقتصاديّة المستعصية التي جعلت ما يزيد على نصف الإيرانيين يعيشون تحت خطّ الفقر.
اخذت أوروبا، من دون شكّ، علما بخطورة فلاديمير بوتين. تبدو خياراتها في ما يخصّ كيفية مواجهته محدودة. تقوم هذه الخيارات على انّه شخص خطير جدا لا يمكن التكهّن بردود افعاله. يشبه في ناحية معيّنة نظاما مثل النظام الإيراني في حاجة دائمة الى الهروب الى امام... الى خارج حدود ايران.
دخل العالم مرحلة جديدة، مرحلة الأسئلة الاوروبيّة الكبيرة. طويت صفحة ما بعد الحرب العالميّة الثانية. طويت صفحة ما بعد سقوط جدار برلين.
فُتحت صفحة إعادة نظر أوروبا بقوّتها العسكرية ونظام الردع الذي عليها اللجوء اليه في مواجهة شخص سيزداد شراسة في حال فشله في أوكرانيا. ما ستركّز عليه أوروبا مستقبلا هل لديها ما تردّ به على مفاجآت فلاديمير بوتين الذي يعتقد انّ التهديد بالسلاح النووي يسمح له بالقيام بما يشاء حيثما يشاء وأنّ كلّ شيء مسموح له في هذا العالم، بما في ذلك إزالة دولة أخرى مثل أوكرانيا من الوجود... بغض النظر عن الانعكاسات التي ستترتب على روسيا نفسها وشعبها.