"حبّا بالله، لا يستطيع هذا الرجل البقاء في السلطة". هذا ما قاله جو بايدن في ختام زيارته لبولندا حيث عبّر من القلب عن مدى كرهه لفلاديمير بوتين في ضوء مغامرته الاوكرانيّة. يبقى الكره، بطابعه الشخصي، شيئا والسياسة شيئا آخر. هل يمتلك جو بايدن وسائل تسمح له بتنفيذ سياسته... أمّ كل ما يقوله عن الرئيس الروسي مجرّد تمنيات تصدر عنه تحت تأثير الكارثة الانسانيّة التي تسبب بها الأخير.
مثل هذه الكارثة الانسانيّة في أوكرانيا ناجمة عن طبيعة فلاديمير بوتين نفسه وعن السياسات الأميركية المهادنة له أيضا. من لم يجد من يردعه في تعاطيه مع الشيشان وتدميره مدينة بكاملها مثل غروزني ثمّ قمعه لجورجيا وصولا الى ضم شبه جزيرة القرم وصولا الى الدخول المباشر في الحرب على الشعب السوري، يسهل عليه غزو اوكرانيا. كذلك، يسهل عليه تدمير مدنها الواحدة تلو الأخرى وتهجير نحو ربع عدد مواطنيها.
ما لم يدركه جو بايدن، الذي لم يتردّد في وصف بوتين بانّه "جزار" و"مجرم حرب"، أن الإدارات الاميركيّة المتلاحقة، في مقدّمها إدارة باراك أوباما سهلت على فلاديمير بوتين اتخاذ قرار يقضي بإزالة أوكرانيا من الوجود... او تقسيمها وضمّ جزء منها الى روسيا!
من الواضح، أنّ الرئيس الأميركي عاجز عن إزاحة فلاديمير بوتين. جعل ما قاله بايدن عن الرئيس الروسي كلا من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والمستشار الألماني اولاف شولتس يأخذان مسافة من الخطاب السياسي الأميركي. يعود ذلك الى معرفة ماكرون وشولتس بأن لا مفرّ من التفاوض مع بوتين في حال كان مطلوبا تفادي انتهاء الحرب الاوكرانيّة بكارثة لا سابق لها على الصعيد العالمي. مثل هذه الكارثة ستقضي على مدن بكاملها وستطال معظم الدول في أوروبا.
عاد جو بايدن الى واشنطن من جولة اوروبيّة شملت بروكسيل وفرصوفيا ومنطقة بولندية قريبة من الحدود مع اوكرانيا يرابط فيها جنود اميركيون. قال امام الجنود كلاما مستفزّا ينمّ عن عجز عن مواجهة روسيا التي لا يمكن ان تتأثّر بالعقوبات المفروضة عليها مهما بلغت درجة هذه العقوبات.
يعود ذلك أساسا الى طبيعة فلاديمير بوتين نفسه من جهة والى وجود روح قوميّة روسيّة من جهة أخرى. مثل هذه الروح القوميّة الروسيّة تدفع في اتجاه العيش في وهم من نوع انّ روسيا امّة عظيمة. يتوجب على العالم، من وجهة نظر المواطن الروسي العادي، الاعتراف بمكانة روسيا بصفة كونها قوّة عظمى وذلك بغض النظر عن فشلها الاقتصادي على كلّ صعيد. لا يعبّر عن هذا الفشل اكثر من أن الاقتصاد الإيطالي اكبر حجما من الاقتصاد الروسي.
لم يثر جو بايدن مخاوف اوروبيّة فحسب، بل اثار أيضا مخاوف حلفاء اميركا في الشرق الأوسط والخليج وشمال افريقيا. ليس انعقاد الاجتماع الذي ضمّ وزراء الخارجية الأميركي والإسرائيلي والمصري والاماراتي والبحريني والمغربي في صحراء النقب سوى دليل على جدّية هذه المخاوف.
قبل كلّ شيء، لا يمكن الردّ على فلاديمير بوتين عن طريق استرضاء ايران وتشجيع مشروعها التوسّعي ودعمه اميركيّا. لم تستوعب دول الخليج العربي ولا مصر ولا المغرب انّ اميركا، بقدّها وقديدها، لا تستطيع فهم انّ عقد صفقة مع "الجمهوريّة الاسلاميّة" في هذه الايّام بالذات خطأ لا تستطيع أيّ دولة من دول المنطقة تحمّله.
ثمّة سياسة اميركيّة عرجاء في الشرق الأوسط والخليج وشما افريقيا شجعت ايران على الذهاب بعيدا في تهديد دول المنطقة وامنها بواسطة "الحرس الثوري". بكلام أوضح، ليس هناك عاقل في المنطقة مستعد لانّ يأخذ على محمل الجدّ أي كلام مطمئن يصدر عن روب مالي وغيره من المسؤولين في الإدارة الأميركية المهتمّين بالملفّ الإيراني. بات الطفل يعرف انّ لا هم لدى هؤلاء المسؤولين الاميركيين سوى التملق لإيران، خصوصا في ضوء ردّ الفعل الأميركي البارد على اعتداءات مارستها في الماضي القريب على المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الامارات العربية المتّحدة.
طبيعي انشغال جو بايدن في كيفية الردّ على فلاديمير بوتين بعد الحرب التي شنّها على أوكرانيا، وهي حرب لم يكن ليشنّها لولا المواقف الاميركيّة المائعة التي اعتمدها باراك أوباما. لكنّ ما هو طبيعي اكثر ان يسأل الرئيس الأميركي نفسه لماذا اعتمدت دول عدّة، تعتبر حليفة لاميركا، موقفا محايدا حيال ما يدور في أوكرانيا.
المسألة في نهاية المطاف مسألة الثقة بدولة عظمى مثل الولايات المتحدة. تقف هذه الدولة متفرّجة عندما يذهب بوتين الى سوريا ويشارك، الى جانب ايران، في الدفاع عن نظام مرفوض من شعبه. قبل ان يرسل الرئيس الروسي طائرات قاذفة الى قاعدة حميميم قرب اللاذقيّة في خريف العام 2015، امتنع باراك أوباما عن الردّ على استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي في الغوطة بشكل وحشي. اكتفى صيف العام 2013 بالأخذ بنصائح فلاديمير بوتين الذي اقنع بشّار بالتخلي عن مخزون الأسلحة الكيميائية الذي لديه واللجوء بدل ذلك الى البراميل المتفجرة لقتل السوريين.
من باراك أوباما... إلى جو بايدن، لم يتغيّر شيء في واشنطن. اذا كان من تغيّر حصل، فهو نحو الأسوأ. لا يزال الشعار المرفوع في واشنطن انّ الملفّ النووي الإيراني يختزل كلّ أزمات الشرق الأوسط والخليج وان لا علاقة لهذا الملفّ بممارسات "الجمهوريّة الاسلاميّة" لا في العراق ولا في لبنان ولا في سوريا... ولا في اليمن. كيف يمكن لإدارة من هذا النوع، تخلت عن حلفائها، بمن فيهم المملكة العربيّة السعوديّة، النجاح في الردّ على فلاديمير بوتين في أوكرانيا؟ كيف يمكن لإدارة أميركية ان تكسب ثقة حلفائها على الرغم من رفضها اخذ العلم بانّ شمال اليمن صار قاعدة صواريخ وطائرات مسيّرة ايرانيّة. هذه الصواريخ والطائرات المسيّرة موجهة الى دول الخليج العربي وباتت تهدّد الملاحة في البحر الأحمر ايضا.
فشلت إدارة بايدن في الامتحان الاوكراني. المأساة انّها لا تريد الاعتراف بذلك ولا تريد معرفة لماذا لا يثق الحلفاء بها من جهة ومدى مسؤوليتها عن ذلك من جهة أخرى...