يتغيّر المشهد الداخلي السوري بسرعة كبيرة. انتقل، في غضون ساعات، من الضربة القويّة التي تعرّض لها النظام الجديد الذي وقع في فخّ نصبته له إيران عبر استخدام “فلول النظام السابق” في الساحل السوري… إلى الاتّفاق الذي وقّعه الرئيس أحمد الشرع مع مظلوم عبدي القائد العامّ لـ”قوات سوريا الديمقراطية”.
وقّع الشرع اتّفاقاً مع الأكراد أقلّ ما يمكن وصفه بأنّه اتّفاق تاريخي يمثّل نقلة نوعية في مجال رسم الخطوط العريضة لسوريا المستقبل المتصالحة مع نفسها، أي مع السوريين من كلّ المذاهب والطوائف والمناطق والقوميّات.
يكفي التمعّن في النقاط الثماني التي تضمّنها الاتّفاق بين الشرع وعبدي للتأكّد من أنّ سوريا انتقلت إلى مرحلة مختلفة لا مكان فيها للتقسيم ولا للإقصاء، أقلّه من الناحية النظريّة. بات هناك اتّفاق خطّيّ يحمل توقيع “رئيس الجمهوريّة العربيّة السوريّة” يؤكّد “الاعتراف بالمجتمع الكردي جزءاً أصيلاً من الدولة السوريّة”.
الأكيد أن ليس في الإمكان تبرير ما تعرّض له العلويّون في الأيّام التي سبقت توقيع الاتّفاق مع الأكراد. تبيّن أنّ هناك فصائل تكفيريّة مسلّحة خارجة عن سلطة الدولة مستعدّة لارتكاب مجازر في حقّ الأقلّيّة العلوية التي لا يزال قسم منها يرفض، للأسف، الاعتراف بالواقع الجديد المتمثّل بسقوط نظام آل الأسد. حسناً فعل أحمد الشرع عندما سارع إلى تشكيل لجنة تحقيق، تضمّ عضواً علويّاً هو خالد الأحمد، من أجل تأكيد أنّ هذه الفصائل لا تمثّل الدولة، مبدياً استعداده لمحاسبة كلّ من على يده دماء بريئة. في النهاية، كان قسم من العلويّين من ضحايا آل الأسد، مثلهم مثل السوريّين الآخرين.
يبدو واضحاً من خلال تطوّر الأحداث في الساحل السوري أن لا رغبة دولية في تقسيم سوريا من جهة، وأنّ هناك معارضة غربيّة شديدة لأيّ عودة إيرانية إلى سوريا
رسالة للدّروز
الأكيد أيضاً أنّ من الضروري استخلاص العبر من أحداث الساحل السوري. في مقدَّم تلك العبر أنّ الغرب عموماً ليس مستعدّاً للدخول في لعبة التقسيم التي يراهن عليها الضبّاط الموالون للنظام السابق، والذين يلقون دعماً إيرانيّاً مباشراً أو عبر “الحزب” في لبنان والحكومة العراقية برئاسة محمّد شيّاع السوداني وفصائل من “الحشد الشعبي”، الذي هو جزء من تركيبة هذه الحكومة. ليس هناك في الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدة، من يريد عودة “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى سوريا كما كانت عليه الحال أيّام بشّار الأسد لا يزال في دمشق. في طبيعة الحال، ليس في الغرب من يريد السماح لإيران بالعودة أيضاً إلى لبنان بعدما حوّل “الحزب”، في مرحلة معيّنة، بيروت إلى مدينة إيرانية على شاطئ المتوسّط.
من هذا المنطلق، كانت هناك لملمة سريعة لأحداث الساحل السوري. ليس صحيحاً أنّ الأمم المتّحدة بعثت بلجنة تحقيق إلى القرى التي وقعت فيها مجازر. يوجد بيان صادر عن “مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانيّة في سوريا” ينفي نفياً قاطعاً “زيارة الساحل السوري لإجراء تحقيقات في المنطقة”.
يبدو واضحاً من خلال تطوّر الأحداث في الساحل السوري أن لا رغبة دولية في تقسيم سوريا من جهة، وأنّ هناك معارضة غربيّة شديدة لأيّ عودة إيرانية إلى سوريا، سواء إلى الساحل أو دمشق أو الجنوب السوري، من جهة أخرى. أكثر من ذلك، يعتبر ما حدث في الساحل السوري رسالة إلى الدروز أيضاً الذين هم جزء من النسيج السوري. فحوى الرسالة أنّ الرهان على كيان درزي، حتّى لو دعمته إسرائيل، ليس رهاناً في محلّه. توجد معلومات عن التوصّل قريباً إلى اتّفاق مع المكوّن الدرزي على إدارة الدروز لمؤسّسات الدولة في السويداء على أن يفتح باب التطوّع لدروز السويداء في وزارة الدفاع السورية. وسيتضمّن الاتّفاق بنوداً أخرى في شأن ظروف انتشار الأمن السوري في السويداء وهو ما تم التداول به بين الشرع ووفد السويداء منذ أيام.
من الواضح أنّ أحداث الساحل السوري صارت من الماضي، خصوصاً إذا استطاع الحكم الجديد في سوريا ضبط الفصائل التكفيرية غير المنضبطة وتدجينها
تبدو أحداث الساحل السوري قابلة للمعالجة، خصوصاً في حال تبيّن أنّ أحمد الشرع مستعدّ للطلاق تماماً مع ماضيه القريب حين كان يُعرف بـ”أبي محمد الجولاني”. يشير الاتّفاق الذي وقّعه مع “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية)، أي مع الأكراد، إلى أنّ الرجل مستعدّ للتأقلم مع الواقع القائم، بما في ذلك الاعتراف بأن ليس أمامه غير هذا الخيار في حال كان يسعى بالفعل إلى قيام سوريا جديدة، الدولة التي فيها مساواة بين كلّ المواطنين، سوريا المختلفة عن سوريا النظام العلويّ الذي أسّسه حافظ الأسد تحت عنوان “السجن الكبير”… والذي سمح لإيران بوضع يدها على البلد.
مستقبل جديد
يختزل الخيار المتوافر لأحمد الشرع البنود التي تضمّنها الاتّفاق مع الأكراد. مثل هذا الاتّفاق لم يكن ممكناً لولا الضوء الأخضر الأميركي. إنّه أيضاً اتّفاق يرضي تركيا التي لديها هاجسها الكردي. يتمثّل هذا الهاجس في قيام كيان كردي مستقلّ في سوريا تنتقل عدواه إلى تركيا نفسها.
من المفيد ملاحظة أنّ الاتّفاق بين الشرع وعبدي حظي بتشجيع من الزعيم الكردي مسعود بارزاني الذي قدّر تقديراً كبيراً الاعتراف بحقوق المواطن الكردي في سوريا. وجاء الاتّفاق بعد أيّام من إعلان عبدالله أوجلان زعيم حزب العمّال الكردي (PKK)، من داخل سجنه التركي، عن تخلّي حزبه عن الكفاح المسلّح في تركيا.
من الواضح أنّ أحداث الساحل السوري صارت من الماضي، خصوصاً إذا استطاع الحكم الجديد في سوريا ضبط الفصائل التكفيرية غير المنضبطة وتدجينها. من الواضح أيضاً أنّ الاتّفاق مع الأكراد يمثّل المستقبل، خصوصاً أنّه يتحدّث عن “دمج كلّ المؤسّسات المدنيّة والعسكريّة في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية”، وعن “رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بثّ الفرقة بين كلّ مكوّنات المجتمع السوري”.
تتطلّع سوريا، على الرغم من كلّ المشاكل التي تواجهها وخصوصاً في المجال الاقتصادي، إلى مستقبل آخر مختلف، بعيداً عن التقسيم وبعيداً عن إيران، التي لم يعد لها ما تستثمر فيه غير إثارة “المسألة العلويّة”. هذه صفحة طُويت، وطُويت معها صفحة استخدام الأراضي السوريّة لإغراق لبنان بالفتن عبر سلاح غير شرعي، ولا خلاص لهذا البلد من دون الخلاص منه نهائياً.