في النهاية، ما الذي لدى رئيس السلطة الوطنيّة محمود عبّاس (أبو مازن) عمله غير الذهاب الى احدى ضواحي تل ابيب لعقد لقاء مع وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس بغية مزيد من التنسيق بين الجانبين؟
مثل هذا اللقاء الفلسطيني – الإسرائيلي اكثر من طبيعي، خصوصا انّ لدى كلّ من الجانبين مصلحة في هذا التنسيق. لا غنى للسلطة الفلسطينية عن المال الذي توفرّه لها إسرائيل... ولا غنى لإسرائيل عن التنسيق الأمني مع السلطة.
لم يكن امام "أبو مازن" من خيار آخر غير الذهاب الى غانتس على الرغم من توقّف العملية السلميّة بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ فترة طويلة وفي ظلّ غياب أي افق سياسي لهذه العمليّة. راوحت العمليّة السياسيّة مكانها منذ فشل قمّة كامب ديفيد صيف العام 2000 بين الرئيس بيل كلينتون وياسر عرفات، رحمة الله عليه، وايهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك.
في 21 عاما طرأت تطورات كثيرة على الصعيد الإقليمي. كان ابرز هذه التطورات تراجع اهمّية القضيّة الفلسطينيّة عربيا. يضحك على نفسه، وعلى الناس، من يظنّ ان هذه القضيّة ما زالت في اولويّة الأولويات العربيّة منذ الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 وتسليمه على صحن من فضّة الى "الجمهوريّة الاسلاميّة" الايرانيّة. تطلعّت "الجمهوريّة الاسلاميّة" دائما، منذ قيامها في العام 1979، الى الهيمنة على العراق من منطلق مذهبي قبل ايّ شيء آخر. كان ذلك رهانها، وهو رهان ما زال قائما الى اليوم.
اختلّ التوازن القائم في المنطقة جذريا في ضوء سقوط العراق وذلك بغض النظر عن الدور الذي لعبه نظام صدّام حسين من اجل جعل العراق ثمرة ناضجة قطفتها ادارة جورج بوش الابن بسهولة وسلّمتها الى ايران حليفتها في غزو العراق.
تبيّن مع مرور الوقت ان السذاجة كانت تتحكّم بإدارة بوش الابن التي ذهبت الى العراق من دون ان تنتهي من حرب أفغانستان... ومن دون تقدير لمعنى غياب ايّ استراتيجيّة لها في مرحلة ما بعد سقوط صدّام حسين ثمّ إعدامه بطريقة اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها مشينة.
لم يكن متوقّعا غياب ايّ استيعاب من "أبو مازن" لما يدور في المنطقة. صحيح ان ياسر عرفات لم يستطع يوما فهم إسرائيل من داخل ولا السياسة الأميركية وكيفية صنع هذه السياسة في واشنطن، لكنّ الصحيح انّه بقي على تواصل دائم مع نبض الشارع الفلسطيني. لم يعزل "أبو عمّار" نفسه عن محيطه المباشر، في حين ارتكب "أبو مازن" كلّ الأخطاء التي يمكن ارتكابها فلسطينيا عندما استبعد أيّ دور لأيّ شخصيّة تستطيع ان تكون ذات حيثيّة في الداخل الفلسطيني. انكشف ضعفه، كما انكشفت عزلته الفلسطينيّة عندما اضطر الى تأجيل موعد الانتخابات الفلسطينيّة التي كانت مقرّرة في ايّار – مايو الماضي بعدما اكتشف انّه لم يعد الرجل القوي داخل حركة "فتح" وان الجناح الذي يقف على رأسه ليس سوى اقلّية.
كان تأجيل موعد الانتخابات التشريعية، والانتخابات الرئاسيّة لاحقا، دليلا على رغبة في المحافظة على الجمود. اكثر من ذلك، إنّه دليل على وجود ازمة عميقة داخل السلطة الوطنيّة الفلسطينية وداخل حركة "فتح" بالذات التي هي في أساس قيام السلطة الوطنيّة بعد توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993.
يساعد في تكريس الجمود، الذي يدعو اليه الرئيس الفلسطيني مدى الحياة، الموقف الإسرائيلي الذي يبدو انّه كان غير راغب في تسهيل اجراء انتخابات، اقلّه في الوقت الحاضر. يساعد في ذلك أيضا، غياب الحماسة الأميركية للانتخابات الفلسطينية في ظلّ مخاوف عبّرت عنها شخصيات سياسية واكاديمية عدّة في واشنطن. أبدت هذه الشخصيّات تخوّفها من نتائج هذه الانتخابات، خصوصا اذا انتهت بسيطرة "حماس" على المجلس التشريعي.
ذهب "أبو مازن" للقاء مع غانتس، هو الثاني بينهما في أربعة اشهر، من موقع رئيس ضعيف للسلطة الوطنيّة الفلسطينية، رئيس لا يعرف ان العالم تغيّر، كذلك المنطقة، وانّ ليس لديه أيّ دروس من ايّ نوع يلقيها على ايّ دولة عربيّة اقامت علاقات مع إسرائيل لأسباب خاصة بها وبما يتفق مع مصالحها.
يبقى الاهمّ من ذلك كلّه ان زيارة رئيس السلطة الوطنيّة لوزير الدفاع الإسرائيلي لن تقدّم ولن تؤخر، خصوصا في ظلّ انهماك إسرائيل بالملفّ النووي الإيراني واحتمالات التوصل الى اتفاق أميركي – إيراني في هذا الشأن. تعرف إسرائيل ان لا فائدة من السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة بشكلها الراهن، باستثناء الدور الأمني الذي تلعبه. لكنّ ما لا تعرفه انّ لا مفرّ لديها من الاستحقاق الفلسطيني الذي سيفرض نفسه عاجلا ام آجلا. سيفرض هذا الاستحقاق، الذي هرب منه بنيامين نتانياهو طويلا، نفسه في المستقبل. لا حاجة الى سنوات طويلة ليعود الى الواجهة سؤال في غاية البساطة: ما العمل بما بين سبعة ملايين وثمانية ملايين فلسطيني يعيشون بين البحر المتوسط ونهر الأردن وذلك بغض النظر عن الجهود التي تبذلها "حماس" لتكون في خدمة الموقف الإسرائيلي وتبرير حال الانقسام الفلسطينيّة القائمة.
اذا كانت السنة 2021 كشفت شيئا، فهي كشفت ان الشعب الفلسطيني واحد، اكان ذلك في داخل اسرائيل نفسها حيث يوجد مليونا فلسطيني او في القدس او في الضفة الغربيّة... او في قطاع غزّة الذي لا بدّ ان يتحرّر يوما من سيطرة "حماس" ومن الذين يتحكّمون بعدد لا بأس به من قيادييها في طهران.
يفيد لقاء من النوع الذي عقده "أبو مازن" مع وزير الدفاع الإسرائيلي في تمرير الوقت في مرحلة تبدو فيها المنطقة حبلى بالتطورات، خصوصا في ما يخصّ ايران ومستقبل مشروعها التوسّعي.
مثلما ان إسرائيل لا تستطيع الهرب من التحديات التي تطرحها ايران عبر برنامجها النووي ومشروعها التوسعي وصواريخها الباليستيّة، لن تتمكن من تجاوز وجود الشعب الفلسطيني الذي يبقى حقيقة سياسية من حقائق المنطقة بعيدا عن اشخاص، يرفضون الواقعين الفلسطيني والإقليمي، بل يهربون منهما الى المزايدات المضحكة، مثل "أبو مازن".