مرة أخرى، يبدو ضرورياً التطرق إلى التقارب التركي - السوري مع تركيز على الأسباب الذي تكشف أنّه مفتعل من جهة ومحكوم بظروف معينة ذات طابع موقت من جهة أخرى.
يكفي للتأكد من ذلك، العودة إلى كلام لأحد مستشاري الرئيس رجب طيب أردوغان ويدعى ياسين اقطاي. قال أقطاي بالصوت والصورة إن حلب يجب أن تكون «من حصة تركيا». ذهب إلى أبعد من ذلك عندما اعتبر أن سيطرة تركيا على حلب ضروريّة لعودة لاجئين سوريين موجودين في الأراضي التركية إلى سورية «في ظروف آمنة».
حرص بعد ذلك على تأكيد أن كلامه يعكس وجهة نظر شخصيّة وليست وجهة نظر الرئيس التركي وحزبه. لكنّ الرسالة التي أراد تمريرها، في شأن النيات التركيّة، بلغت كلّ من يهمّه الأمر.
في المقابل، تحدث رئيس النظام السوري بشّار الأسد، في أول تعليق له على ما سمّي التقارب بين دمشق وأنقرة عن أنّ اللقاءات السورية - التركية يجب أن تكون مبنية على انهاء «الاحتلال».
قال الأسد في لقاء مع ألكسندر لافرنتييف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي جاء إلى دمشق من عمّان، إنّه كي تكون اللقاءات السورية - التركية «مثمرة» يجب أن تُبنى على «تنسيق وتخطيط مسبقين بين سورية وروسيا من أجل الوصول إلى الأهداف والنتائج الملموسة التي تريدها سورية». اعتبر أنّ هذه اللقاءات يجب أن تؤدي إلى «إنهاء الاحتلال ووقف دعم الإرهاب».
يرفض بشّار وضع زيارة لافرنتييف في إطارها الحقيقي. يتجاهل أنّ الجانب الروسي في وضع لا يحسد عليه في ضوء غرقه في الوحول الأوكرانيّة وأنّ ضغوطه من أجل عقد لقاءات سوريّة - تركيّة، لا تخرج عن محاولته اظهار أنّه لا يزال موجوداً في سورية وأنّ لديه خيارات أخرى غير السقوط الكامل في الحضن الإيراني.
من هذا المنطلق، تحدث البيان الرسمي السوري الصادر عن اللقاء بين الأسد ولافرنتييف عن التطرق إلى الأوضاع الإقليمية والدولية وتأكيد رئيس النظام السوري «أنّ المعركة السياسية والإعلامية هي على أشدها الآن في العالم، وأنّ اشتداد هذه المعارك يتطلب ثباتاً ووضوحاً أكثر في المواقف السياسية»، مشيراً في هذا الصدد إلى «موقف سوري داعم للعملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس».
يُفترض أن تكون لدى أيّ مسؤول، في أي بلد كان، ما يكفي من الحكمة لإعلان رفض الوقوف مع دولة معتدية على دولة أخرى، مع دولة تصرّ على اقتطاع قسم من أراضي الدولة الأخرى وضمها إليها كما تفعل روسيا في تعاطيها مع أوكرانيا.
في الواقع، لا يحقّ لبشّار المطالبة بانهاء الاحتلال التركي حين يقف مع روسيا في حربها على أوكرانيا ورغبتها في احتلال قسم من أراضيها. مثلما نسي لواء الإسكندرون، يبدو عليه أن ينسى ما تفعله تركيا في شمال سورية.
ليس التقارب السوري - التركي سوى طبخة بحص وذلك بغض النظر عن احتمال حصول لقاء بين وزيري الخارجيّة في البلدين استكمالاً للقاء موسكو بين وزيري الدفاع بحضور وزير الدفاع الروسي وقادة الأجهزة الأمنية في سورية وتركيا.
عندما يتحدّث بشّار الأسد عن «الاحتلال التركي»، فهو يقول سلفاً إنّه لا يريد التوصل إلى تفاهم مع رجب طيب أردوغان المصرّ على أن تكون لتركيا كلمتها في تقرير مستقبل سورية. من يقبل بالاحتلال الإيراني والاحتلال الروسي والاحتلال الإسرائيلي والاحتلال الأميركي لا يغصّ بالاحتلال التركي.
كلّ ما في الأمر أن هناك أجندة تركيّة لا تتفق مع أجندة النظام السوري. ترتبط الأجندة التركيّة قبل كلّ شيء بالانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو المقبل. يتوجب على أردوغان من أجل تعزيز وضعه الانتخابي إظهار أنّه مهتمّ بإيجاد حل لمشكلة السوريين الموجودين في الأراضي التركيّة.
لا يستطيع الرئيس التركي إيجاد مدخل لمثل هذا الحل من غير تكريس وجود شريط تحت السيطرة التركيّة في عمق 30 إلى 35 كيلومتراً في عمق الأراضي السوريّة.
يمارس أردوغان لعبة كبيرة تتجاوز بشّار الأسد الذي يدين بوجوده في دمشق للتدخل المباشر الإيراني، عبر «الحرس الثوري» وميليشيات مذهبيّة تابعة للحرس، ثمّ لوجود قاعدة روسية في حميميم، قرب اللاذقيّة. هذه اللعبة الأردوغانيّة مرتبطة باستخدام الروسي كورقة ضغط في أي مفاوضات مع الأميركيين.
إضافة إلى ذلك، هناك الهاجس الكردي المتمثّل في «قوات سورية الديموقراطيّة» (قسد) وارتباطها بالوجود العسكري الأميركي في شمال سورية. لا يستطيع أردوغان تجاهل هذا الهاجس بسبب الخوف الدائم من الأكراد ووزنهم في داخل تركيا نفسها.
تبقى نقطة أخيرة مهمّة تتعلّق بالموقف الإيراني. لا يمكن لبشّار الخروج من تحت العباءة الإيرانيّة. تصرّ «الجمهوريّة الإسلاميّة» التي أحكمت قبضتها على مناطق سوريّة معيّنة، في ضوء الضعف الروسي، على معرفة كلّ شاردة وواردة في ما يخص لقاء موسكو السوري - التركي - الروسي وأي تحرّك لبشّار في أي اتجاه كان، بما في ذلك عربيّاً.
ليست زيارة حسين أمير عبداللهيان لبيروت، تمهيداً لزيارة دمشق، سوى من أجل تأكيد أن «الجمهوريّة الإسلاميّة» مازالت قوية ولديها أرواقها الممسكة بها جيداً في سورية ولبنان والعراق واليمن.
توجه الزيارة رسائل إيرانيّة في اتجاهات مختلفة، بينها رسالة إلى الكرملين وما يعمل على ترتيبه بين سورية وتركيا في سياق إظهار أنّه لايزال لاعباً فاعلاً في المنطقة.
فحوى الرسالة أنّ لا شيء يمكن أن يحصل في سورية، كذلك في العراق ولبنان واليمن، من دون إيران. لا تقارب سورياً - تركياً من دون دور مباشر لـ«الجمهوريّة الإسلاميّة». بكلام أوضح، جاء عبداللهيان إلى بيروت، ثمّ انتقل إلى دمشق، ليطمئن «حزب الله» إلى أن كلّ شيء على ما يرام في ايران... التي لم يتأثر النظام فيها بالغليان الشعبي المستمر منذ أربعة أشهر. وحدها الأسابيع المقبلة ستظهر هل هذا الافتراض صحيح أم لا!