لا يمكن وصف إدارة جو بايدن سوى بالإدارة الحائرة التي تسعى الى إيجاد موقع لها في هذا العالم. حيّرت هذه الإدارة العالم بعدما بدأت جهات عدّة تتجرّأ عليها، بمن في ذلك روسيا وايران، فيما اختارت الصين لعب الواقف في غرفة الانتظار. تنتظر الصين الساعة المناسبة كي تكشّر بدورها عن انيابها.
تواجه الإدارة الاميركيّة الحاليّة اختبارات عدّة في أماكن مختلفة دفعة واحدة. تواجه، قبل ايّ شيء، اختبارا داخليا أميركيا. تفصل مدّة تسعة اشهر فقط عن موعد انتخابات الكونغرس التي سيتقرّر في ضوئها مستقبل الادارة ومستقبل ساكن البيت الأبيض الطامح الى ولاية ثانية على الرغم من تقدّمه في العمر. يمكن ان تفضي انتخابات الكونغرس الى خسارة الديموقراطيين الاكثريّة في مجلسيه، مجلس الشيوخ ومجلس النوّاب.
في حال تعرّض الإدارة الديموقراطيّة لمثل هذه النكسة في الكونغرس، ستتحوّل إدارة بايدن إلى مجرّد بطّة عرجاء، حسب التعبير الأميركي. ستكون إدارة في وضع البطة العرجاء الى حين حلول موعد الانتخابات الرئاسيّة في خريف 2024. معنى ذلك نهاية عهد بايدن قبل الأوان وترجيح عودة الجمهوريين الى البيت الأبيض، عبر مايك بنس نائب الرئيس السابق او مايك بومبيو وزير الخارجية في عهد دونالد ترامب... أو شخص ثالث ينتمي الى اليمين الاميركي. الثابت ان ترامب نفسه صار ورقة خاسرة بعد كلّ الملاحقات القضائية التي تعرّض لها أخيرا.
سيعتمد الكثير على ما اذا كان في استطاعة الإدارة الحاليّة تحسين الوضع الاقتصادي الأميركي. يبقى الاقتصاد العامل الاوّل في تحديد ما اذا كان الديموقراطيون سيبقون مسيطرين على مجلسي الكونغرس أم لا. لذلك، يبدو الوضع الداخلي الأميركي مرتبطا الى حدّ كبير بتحقيق نجاحات داخليّة وخارجيّة في الأشهر القليلة المقبلة. الاقتصاد في الداخل... أوكرانيا وايران في الخارج. اكثر من ذلك، سيكون على الإدارة اظهار انّها قادرة بالفعل على مواجهة ما اسمته هي "الخطر الصيني".
ثمّة ارتباط بين الداخل والخارج في ما يخص إدارة أعطت كلّ الإشارات الخطأ في الوقت الخطأ في ضوء الطريقة التي انسحبت فيها من أفغانستان الصيف الماضي. كشفت الإدارة الاميركيّة، وقتذاك، انّها عاجزة عن التعاطي مع الواقع الافغاني. لم تقدّر السرعة التي ستستولي بها حركة "طالبان" على السلطة في أفغانستان وما سيترتب على ذلك من نتائج على صعيدين. الاوّل الداخل الافغاني نفسه والآخر نظرة العالم الى اميركا وما تمثّله.
بعد الانسحاب من أفغانستان، وهو انسحاب ارتدى طابعا فوضويّا، بات طبيعيّا ان تنظر روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين الى الإدارة الأميركيّة بطريقة مختلفة. قبل ذلك، اكتشفت "الجمهوريّة الاسلاميّة" في ايران ان في استطاعتها الاستخفاف بإدارة جو بايدن، خصوصا بعد رهانها على ان رفع الحوثيين عن قائمة الإرهاب الاميركيّة سيساعد في دخولهم عمليّة سلمية تساعد في إيجاد تسوية سياسية في اليمن. كلّ ما تلا ذلك كان مخالفا للتوقعات الاميركيّة التي تنمّ عن سذاجة ليس بعدها سذاجة. لجأ الحوثيون (جماعة انصار الله)، الذين ليسوا سوى أداة ايرانيّة، الى مزيد من التصعيد من دون ردّ فعل يُذكر، أو على الاصحّ ردّ فعل ذي طابع جدّي، من ادارة جو بايدن. تبيّن ان الإدارة الاميركيّة مرتاحة الى ابعد حدود كون التصعيد الحوثي تجاه دولة الامارات لم يؤثّر على مفاوضات فيينا بينها وبين "الجمهوريّة الاسلاميّة".
من الطبيعي ان ينتهز فلاديمير بوتين الفرصة لتأكيد ان روسيا شريك في تحديد مستقبل أوروبا وانّ ليس مسموحا ان تكون أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي. ربح بوتين حرب أوكرانيا قبل خوضها. قد يلجأ الى خوض هذه الحرب على طريقته عبر معارك صغيرة في هذا المكان او ذاك داخل أوكرانيا نفسها. هذا ما فعله بعدما قرّر تقسيم أوكرانيا والتدخل عسكريا في داخل الأراضي الاوكرانيّة.
يعرف الرئيس الروسي في نهاية المطاف ان إدارة بايدن تحتاج الى تسوية. وهذا ما تعرفه ايران أيضا التي استخدمت اوراقها التفاوضيّة في المنطقة، أي ميليشياتها المذهبيّة، بشكل جيّد. استخدمتها في العراق، حيث عطلت البلد في ضوء رفضها الاعتراف بنتائج الانتخابات النيابيّة الاخيرة، واستخدمتها في سوريا حيث تابعت عملية تغيير الديموغرافيا واستخدمتها في لبنان الذي تحوّل، بفضل "حزب الله"، الى مجرّد مستعمرة ايرانيّة.
هل لدى إدارة بايدن ما تردّ به على التحدّيات التي تواجهها حاليا؟ الجواب ان ليس ما يشير الى ذلك. كلّ ما في الامر ان الإدارة الاميركيّة الحاليّة تبدو اكثر من مستعدّة لقبول ان عالما جديدا بات قائما، وهو عالم يشبه الى حدّ كبير عالم الحرب الباردة مع وجود قطبين او اكثر. من اجل انقاذ وضعه الداخلي، سيكون جو بايدن مستعدا لكلّ أنواع التسويات السيئة مع روسيا وايران... ومع الصين في مرحلة لاحقة.
لن تكتشف الإدارة الحاليّة، إلّا بعد فوات الأوان، أنّها لا تعرف شيئا لا عن الصين ولا عن روسيا ولا عن ايران ولا عن الخليج والشرق الأوسط تحديدا. لا تعرف خصوصا كيف التعاطي مع حلفائها الذين راهنوا على وقوفها الى جانبهم لدى تعرّضهم لايّ تهديد من أي نوع كان.
الاهمّ من ذلك كلّه، أنّ اميركا في عهد جو بايدن استمرار لاميركا في عهد باراك اوباما. لا تعرف الإدارة الحاليّة ان السير في خطّ يتعارض كلّيا مع ذلك الذي اتبعتّه إدارة ترامب ليس سياسة بمقدار ما أنّه دعوة الى الاستخفاف الروسي والصيني والإيراني بأميركا وبقدرتها على بناء نظام دولي جديد في اعقاب انتصارها في الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود.
مثل هذا الانتصار الأميركي بات من الماضي في ظلّ إدارة تتميّز بسياسة حائرة. حائرة الى درجة لا تعرف ان "الجمهوريّة الاسلاميّة" في ايران ليست جمعيّة خيريّة وان بوتين ليس في نهاية المطاف اكثر من ضابط في جهاز الاستخبارات السوفياتيّة (كي. جي. بي) لا همّ لديه سوى اثبات ان الاتحاد السوفياتي لم يمت وانّ في الإمكان إعادة الحياة إليه يوما...
ترفض الإدارة الاميركيّة فوق ذلك كلّه اخذ العلم بمخاوف حلفائها في المنطقة وحقهم في طرح أسئلة مشروعة مرتبطة بكيفية الردّ على المشروع التوسّعي الإيراني بكلّ ما ينطوي عليه من تحديات ومخاطر.