هذه لحظة إقليمية محوريّة بالنسبة إلى لبنان الذي ارتبط مصيره، أكثر من أيّ وقت، منذ عام 1970 بمصير سوريا، التي تخلّصت أخيراً من نظام أقلّوي – عائلي، مرتبط بإيران، وضع نصب عينيه إخضاع البلد.
هل يلتقط لبنان اللحظة الراهنة؟ أم يفوته ذلك مثلما فاته التقاط لحظة أحداث أواخر عام 1970، بل راح ضحيّتها؟ كانت تلك أحداثاً مفصلية بالنسبة إلى المنطقة عموماً ولبنان على وجه التحديد. يحتاج لبنان، قبل أيّ شيء، إلى قيادة سياسيّة في مستوى المرحلة. تتطلّب المرحلة وجود قيادة تدرك ما يدور في المنطقة، وتدرك خصوصاً التحوّلات التي تشهدها، وفي مقدّمها التغيير ذو الطابع التاريخي الذي وقع في سوريا.
يشمل ذلك قيام نظام جديد لم يتبلور شكله بعد، علماً أنّ الثابت الوحيد يتمثّل في أن لا عودة لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة إلى سوريا ولا عودة إلى الحلف الفارسي – العلويّ الذي بات لبنان في منأى عنه.
في خريف 1970، استطاع النظام الملكي في الأردن القضاء على محاولة قامت بها المنظّمات الفلسطينية المسلّحة من أجل قلبه. عُرف ذلك بـ”أيلول الأسود”. انتقل الثقل الفلسطيني ومعه السلاح المتفلّت إلى لبنان الذي كان ارتكب قبل ذلك جريمة في حقّ نفسه. كانت جريمة توقيع اتّفاق القاهرة في تشرين الثاني 1969، التي عنت بين ما عنته، التخلّي عن السيادة على جزء من جنوب لبنان لمسلّحي المنظّمات الفلسطينية…
في خريف 1970 أيضاً، يوم 28 أيلول تحديداً، توفّي جمال عبدالناصر الذي كان زعيماً عربياً وليس مصرياً فقط، وكان يستطيع بما يمتلكه من سلطة معنوية ضبط الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان وحماية مؤسّسات الدولة اللبنانيّة… إلى حدّ ما.
حافظ الأسد وإضعاف دور السُّنّة
في خريف 1970 أيضاً وأيضاً، احتكر حافظ الأسد، في 16 تشرين الثاني، السلطة في سوريا في ضوء ما سمّي “الحركة التصحيحية”. كان لدى حافظ الأسد، الذي أسّس النظام، الذي حكم سوريا 54 عاماً، تركيز دائم، على غرار ما فعله في سوريا، على إضعاف دور السنّة في لبنان في مقابل اهتمام خاصّ بالشيعة، الذين حرص في كلّ وقت على مراعاتهم واحتضانهم. جعل مهمّة أحد القريبين منه (محمد ناصيف خير بك) شبه محصورة بالاهتمام بشؤونهم من صغيرها إلى كبيرها. أخضع الدروز، وإن مؤقّتاً، باغتيال كمال جنبلاط، واستفاد إلى حدّ كبير من التجاذبات بين المسيحيين. لم يكن بعيداً عن اغتيال بشير الجميّل عندما وجد أنّ بشيراً يمكن أن يقف في وجهه.
لا يقدّر قيمة اللحظة اللبنانيّة الراهنة وأهمّيتها سوى الذين عايشوا محطّات داخلية معيّنة بدءاً بانتخاب سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهورية صيف عام 1970. جاء انتخاب الزعيم الماروني الشمالي رئيساً فيما كانت الحاجة إلى رئيس للجمهوريّة اللبنانيّة يمتلك ثقافة سياسية واسعة تتجاوز لبنان.
في أيّامنا هذه، توجد مرحلة تغيّرت فيها الخريطة السياسيّة للمنطقة بدءاً بتدمير إسرائيل لغزّة وكلّ ما تمثّله “حماس” فيها، خصوصاً العلاقة العضوية التي تربطها بإيران. كذلك، سقطت إيران في سوريا، وذلك مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو وانكشاف مدى الضعف الروسي في المنطقة، وهو ضعف تعبّر عنه استعادة السلطات السورية الجانب المدني من ميناء طرطوس، الذي كانت موسكو تريد استغلاله بموجب عقد طويل المدى.
بقيت القاعدة البحرية الروسيّة في طرطوس، لكنّ مستقبلها سيكون موضع تفاوض بين الجانبين. كلّ ما في الأمر أنّ الإدارة السوريّة الجديدة معادية لإيران وروسيا، لكنّها تفضّل التمييز في درجة العداء لكلّ من الجانبين.
للتّفكير بأسئلة الأيّام المقبلة
يزيد المشهد الإقليمي تعقيداً، ومعه حاجة لبنان إلى قيادة سياسيّة مستعدّة لأخذ العلم بما يدور في المنطقة والعالم بعيداً عن أيّ نوع من الشعارات البرّاقة، من نوع “المقاومة والممانعة”، التقارب الأميركي – إلإسرائيلي. ففي ظلّ وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، سيكون من الصعب التمييز بين ما تفكرّ فيه أميركا وما تفكّر فيه إسرائيل.
بدل أن ينشغل لبنان في تشكيل حكومة تحفظ لـ”الحزب” مكانته، من واجب كلّ فريق لبناني، بمن في ذلك “الحزب” نفسه، الارتفاع إلى مستوى المسؤولية والتفكير منذ الآن بأسئلة الأيام المقبلة على لبنان. من بين الأسئلة ثمن تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانيّة المحتلّة منذ بدأ الهجوم الإسرائيلي على “الحزب” في أواخر أيلول الماضي.
ثمن الانسحاب الإسرائيليّ
الأكيد أنّه ليس مطلوباً استفزاز “الحزب” بمقدار ما أنّ المطلوب أن يكون لبنان في مستوى اللحظة الإقليمية، رئيساً وحكومة وشعباً. هناك ثمن سيتوجّب على لبنان دفعه من أجل أن تنسحب إسرائيل من الجنوب ومن القرى التي تحتلّها. هذا الثمن يعني أوّل ما يعنيه، استيعاب أنّ اتّفاق وقف النار الذي أوقف الضربات الإسرائيلية يشمل لبنان كلّه، وأنّ سلاح “الحزب” جنوب الليطاني مثل سلاح “الحزب” شماله. بكلام أوضح، لا مكان لهذا السلاح في المعادلة اللبنانيّة الجديدة، مرحلة ما بعد انتخاب جوزف عون، بقدرة قادر، رئيساً للجمهوريّة وتكليف نوّاف سلام تشكيل الحكومة.
توجد صفحة، بين صفحات عدّة، طُويت في تاريخ لبنان وتاريخ سوريا. الصفحة التي طُويت، كانت صفحة الحرب على أهل السنّة في سوريا ولبنان. على سبيل المثال وليس الحصر، منع حافظ الأسد، في عام 1972، طائرة الرئيس صائب سلام الذي كان رئيساً للوزراء من الهبوط في مطار حلب.
كان صائب سلام في رحلة صيد مع عدد من رفاقه. عادت الطائرة إلى بيروت. مُنعت من الهبوط في حلب لأنّ صائب سلام لم يوقف التحقيق في اغتيال الضابط العلويّ السوري محمّد عمران في طرابلس، الذي كان يقيم فيها بعد فراره من سوريا. لم يكن سرّاً أنّ حافظ الأسد أرسل من يغتال محمد عمران في طرابلس… كما كان يريد تدجين السنّة عبر صائب سلام!
في 2025، لبنان في مكان آخر، وكذلك سوريا. التغيير الذي حصل كبير، بل كبير جدّاً ويتجاوز الوطن الصغير. هل من رجال على مستوى فهم أبعاده؟