بقلم - خيرالله خيرالله
لم يعد معروفاً هل يوجد مخرج من الأزمة العميقة التي يمرّ بها السودان منذ ما يزيد على سنة بعد انفجار الوضع في داخل المؤسسة العسكرية بين الجنرالين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي). لا يبدو أن نهاية تلوح في الأفق لهذه الأزمة التي ولدت من رحم الصراع بين عسكريين كانا مفترضاً بهما العمل على انتقال السودان إلى حكم مدني إثر سقوط نظام عمر حسن البشير في العام 2019.
بدل الإنتقال إلى حكم مدني ونقل البلد إلى مرحلة جديدة تكون بديلاً من الدكتاتورية التي مارسها البشير، في ظلّ شعارات ذات طابع إخواني، طوال ثلاثة عقود كاملة، بات السودان مهددا بالشرذمة الداخليّة. يأتي ذلك بعد تاريخ طويل من التناوب على السلطة بين العسكر والمدنيين منذ الاستقلال في العام 1956.
كانت الخطيئة الأصلية الكبرى في تسليم المدنيين السلطة إلى العسكر بعد سنتين من الإستقلال. اعتقد زعماء الأحزاب السودانيّة أنّ هناك حلا اسمه العسكر. وقتذاك، في العام 1958، تولى الضابط إبراهيم عبود، السلطة ولم يخرج منها إلّا بعد نزول المواطنين إلى الشارع هم ينادون «إلى الثكنات يا (...) «. سلّم المدنيون السلطة إلى الجيش السوداني بعد فشل على كلّ المستويات، وهو فشل اعترفوا به... إلى أن وصل يوم ظهر فيه بوضوح، ليس بعده وضوح، أن الحكم العسكري في السودان لا يقل سوءاً عن الحكم المدني وعن ممارسات الأحزاب السودانيّة.
كان إبراهيم عبود رجلاً حكيماً، إلى حدّ ما طبعاً. رفض اللجوء إلى العنف والدعم الخارجي للبقاء في السلطة كما يفعل بشار الأسد في سورية، على سبيل المثال وليس الحصر. ترك القصر الجمهوري، بعد مكوثه ست سنوات فيه. ذهب من القصر إلى بيته. تبيّن له بالملموس أن العسكر لا يستطيعون حكم السودان وليست لديهم أي حلول. لم يقاوم عبود المواطنين السودانيين الذين اكتشفوا بدورهم مرّة تلو الأخرى أن الأحزاب السودانيّة مفلسة وليست في مستوى المسؤولية. سهل ذلك الانقلاب الذي نفّذه جعفر نميري في العام 1969، وهو العام نفسه الذي وصل فيه العقيد معمّر القذافي إلى السلطة إثر انقلاب على نظام ملكي كان الضمانة الوحيدة لبقاء ليبيا دولة تتمتع بمواصفات حضاريّة وليس مجموعة ميليشيات في صراع في ما بينها كما الحال الآن.
لم يعد من مجال لإنقاذ السودان الذي بات أسير جنرالين يأخذانه إلى مزيد من الخراب والتفتت، خصوصا أن البرهان لا يزال يعتقد أنّه قادر على خلافة عمر حسن البشير وأنّه الشخص المؤهّل لذلك. في المقابل توجد طموحات من نوع آخر لدى «حميدتي»، قائد قوات الدعم السريع، الذي يمتلك مصالح واسعة يريد المحافظة عليها.
تكمن خطيئة البرهان، الذي ينتمي بدوره إلى مدرسة الإسلام السياسي ، في أنّه لم يستطع إيجاد قواسم مشتركة مع «حميدتي» يؤمنان من خلالها غطاء لحكومة مدنيّة تتولّى، عبر إختصاصيين، نقل السودان إلى مكان آخر. أي إلى حكم مدني يتولى فيه أشخاص، يمتلكون حدّاً أدنى من الخبرة، مسؤوليات معالجة مشاكل السودان من جهة والاستفادة من الثروات الكبيرة التي يتمتع بها البلد من جهة أخرى.
لا منطق يحكم السودان حيث يتجاوز حجم الأمة الإنسانية أي أزمة أخرى في العالم، بما في ذلك حجم أزمة غزّة. لم يجد البرهان طريقة للتصالح مع المنطق بعدما فشل في فهم ميزان القوى بين الجيش السوداني من جهة والقوة التي في أمرة «حميدتي» من جهة أخرى. لم يبق أمام قائد الجيش السوداني في الوقت الحاضر سوى ممارسة عملية هروب إلى أمام بدل الاعتراف بمسؤوليته عمّا آل إليه الوضع السوداني. حسنا، يمكن الكلام عن تهوّر «حميدتي»، لكن ما مسؤولية قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة الانتقالي عندما يكون مصير البلد على كف عفريت؟ يرفض البرهان تحمّل مسؤولياته، لم يعد معروفاً هل هو متهوّر أكثر من «حميدتي»... أم أن «حميدتي» أكثر تهوراً منه. لا يدل على ذلك أكثر من الهجوم، الذي لا مبرر له الذي يشنّه البرهان على دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي بلد مسالم يتفادى أي نوع من المشاكل. جاء الهجوم غير المبرر في وقت يعاني منه قائد الجيش السوداني من انتكاسات عسكريّة كشفت ضعفه كقائد عسكري من جهة وغياب الثقافة السياسيّة لديه من جهة أخرى.
ليست معروفة طبيعة الرسائل التي يريد البرهان توجيهها. هل يريد تقديم أوراق اعتماد إلى إيران التي يريد التقرب منها... أم أنّه يبحث عن سبب يفسّر عبره، لنفسه أوّلاً، أسباب فشله في الحرب التي يشنّها على «حميدتي» الذي هو أيضاً نائبه في رئاسة مجلس السيادة الانتقالي؟ لعلّ أبرز ما أزعج البرهان حديثاً الضربات التي تلقتها قواته في غير. ما ذنب الإمارات في ذلك، علما أنّها أكدت المرّة تلو الأخرى أن لا دخل لها في الحرب السودانيّة. على العكس من ذلك، إنّ للإمارات دخلاً في السعي إلى إنهاء هذه الحرب من جهة وتأمين انتقال السلطة إلى حكم مدني وفق مبدأ التداول السلمي للسلطة من جهة أخرى. هذا ما يفسّر كلّ هذا التضايق الذي يظهره البرهان من رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، الذي حاول بين العامين 2019 و2022 تأمين الوصول إلى مرحلة انتقالية تنتقل بعدها السلطة من العسكر إلى المدنيين بشكل طبيعي.
لا يوجد عاقل يرفض الاعتراف بأن هناك دوراً حاسما لعبه كبار ضباط الجيش في دعم المجتمع المدني السوداني الذي وقف ضدّ نظام عمر حسن البشير. لا يكون استكمال هذا الدور بالسعي إلى العودة إلى نظام عسكري... أيا كان شكله. مثل هذا النظام ليس حلا للسودان الذي يسير بخطى حثيثة نحو الانهيار الكامل!