مرّت أمس، الذكرى الـ18 لاغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من فبراير 2005. يتبيّن مع مرور الوقت أمران، أولهما أن تفجير موكب رفيق الحريري ورفاقه، في مقدمهم النائب باسل فليحان، كان تفجيراً للبنان. يؤكّد ذلك ما آل إليه البلد الذي بات مصيره مطروحاً.
الأمر الآخر أن اغتيال الحريري كان مرتبطاً بتطورات على الصعيد الإقليمي، أبرزها تسليم إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضّة إلى «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران.
كان تسليم العراق إلى إيران، في العام 2003، بمثابة زلزال سياسي ما زالت تفاعلاته مستمرّة إلى اليوم. سمح ذلك بالانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني الذي نشهد يومياً فصوله لبنانياً وسورياً وعراقياً ويمنياً.
توقف اندفاع ذلك المشروع في ضوء الحرب العراقيّة - الإيرانيّة بين 1980 و1988، وهي حرب انتهت بشبه انتصار عراقي.
لكنّ قرار الإدارة الأميركية باجتياح العراق عسكرياً سمح بانتصار إيراني على العراق أدّى إلى اختلال لتوازن إقليمي لم تشف منه المنطقة إلى اليوم.
يبدو هذا الاختلال مرشحاً للاستمرار، خصوصا في ظلّ التدهور الداخلي في إيران. هناك نظام اسمه «الجمهوريّة الإسلاميّة» لم يفعل يوماً غير الهرب من أزمته الداخليّة إلى خارج حدوده.
من يقارن بين ما كان عليه لبنان في عهد الحريري وبين وضعه حالياً، يكتشف إلى أي درجة كان مهمّا التخلّص من الرجل. كان الهدف واضحاً ويزداد وضوحه مع مرور الزمن.
مطلوب أن يصبح لبنان بلداً بائساً كي يسهل وضع اليد الإيرانيّة عليه من جهة وتهجير أهله، خصوصاً المسيحيين منهم من جهة أخرى.
هؤلاء المسيحيون عادوا مع غيرهم بعشرات الآلاف بمجرد عودة الحياة إلى بيروت ابتداء من العام 1992 وتشكيل الحريري حكومته الأولى.
لا بدّ من امتلاك ما يكفي من الشجاعة التي تسمح بإجراء مقارنة بين ما كانت عليه بيروت ولبنان في عهد الحريري، الذي لم يدم طويلاً، وما يشهده لبنان اليوم من مآسٍ.
يظلّ السؤال اللغز منذ اغتيال الحريري أين كانت مصلحة بشّار الأسد في تغطية الجريمة التي بات معروفا من نفذها، في ضوء ما كشفته المحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان.
حددت المحكمة في تحقيقاتها، بالتفاصيل المملة، من نفّذ الجريمة ومن خطّط لها.
هل يكفي الحقد على الرجل والغيرة منه كي يقدم النظام السوري على مثل هذه الخطوة التي أدّت في نهاية المطاف إلى خروجه عسكرياً وأمنياً من لبنان وحلول «حزب الله» الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني مكانه؟
تظلّ عبارة «شكراً سورية» التي قالها حسن نصرالله في تظاهرة الثامن من مارس 2005، بعد ثلاثة أسابيع على اغتيال الحريري، مفتاح فهم مرحلة ما بعد تنفيذ الجريمة.
أراد الأمين العام لـ«حزب الله» شكر النظام السوري على توفيره الغطاء المطلوب الذي أدّى إلى الخروج السوري من لبنان وبداية العصر الإيراني فيه.
هذا كلّ ما في الأمر. هناك نظام سوري تحوّل إلى تابع لإيران في اليوم الذي خلف فيه بشّار الأسد والده، غير مدرك بعض البديهيات من نوع أنّ ازدهار بيروت من ازدهار دمشق وازدهار دمشق من ازدهار بيروت.
كان اغتيال الحريري نقطة تحوّل على الصعيدين اللبناني الإقليمي في آن.
لم تكتف إيران بتنفيذ انقلاب واحد في لبنان عبر تفجير موكب الرجل.
أتبعت ذلك بسلسلة إغتيالات استهدفت شخصيات محدّدة وصولا إلى فرض ميشال عون، الذي لم يكن سوى أداة إيرانيّة، رئيسا للجمهوريّة.
من اغتيال الحريري وصولاً إلى شرذمة السنّة وتفريغ لبنان من مسيحييه وما رافق ذلك كلّه من حملات تستهدف تهميش الدروز، وصل لبنان إلى مرحلة الاستسلام أمام الاحتلال الإيراني.
هل يستسلم فعلاً؟ ما تحقّق في حرب صيف العام 2006 كان انتصارا لـ«حزب الله»، أي لإيران على لبنان.
لم تكن تلك الحرب التي تلاها الاعتصام في بيروت، وهو اعتصام شارك فيه أنصار عون وجبران باسيل كخطوة في طريق تقديم أوراق اعتمادهما إلى «حزب الله»، سوى دليل آخر على الحقد والحسد.
الحقد على بيروت وعودة لبنان أوّلاً وأخيراً.
إذا كان من كلمة حقّ تقال، فإنّ سعد رفيق الحريري، بذل كلّ ما يستطيع من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ومنع العزلة العربيّة والدوليّة للبنان، وهي عزلة لن يعوّضها رئيس فرنسي اسمه ايمانويل ماكرون لا يمتلك الأدوات التي تسمح له بتنفيذ سياسته. أكثر من ذلك، يتبيّن كلّ يوم من خلال تسلسل الأحداث إلى أي حد هناك جهل فرنسي بالمنطقة العربيّة، بما في ذلك شمال أفريقيا!
أدرك سعد الحريري باكراً أنّ لبنان لم يعد مسألة لبنانيّة، بل إنّ مستقبل البلد مرتبط بتطورات إقليمية يصعب التكهن بها.
فضل البقاء بعيداً عن السياسة، أقلّه في الوقت الحاضر.
كان قراره حكيماً خصوصاً في ضوء شراسة المشروع التوسعي الإيراني الذي يعبّر عنه ذلك الإصرار على تدمير كلّ المقومات اللبنانية... واكتشاف أميركا أخيراً مدى عمق العلاقة بين نظام «الجمهوريّة الإسلاميّة» وفلاديمير بوتين.
هناك عالم جديد تصنعه الحرب الأوكرانيّة وهناك شرق أوسط جديد سيولد من رحم الزلزال الذي ضرب شمال غربي سورية والجنوب التركي.
بعد 18 عاماً على اغتيال رفيق الحريري، يستمر الزلزال.
كانت البداية في العراق. ليس السؤال ما مصير لبنان، بل ما مصير سورية التي لن تقوم لها قيامة في يوم من الأيّام بعدما صارت تحت خمسة احتلالات.
السؤال الحقيقي هل لا يزال في الإمكان إعادة تشكيل العراق كبلد محوري في المنطقة.
في النهاية لا نظام إقليمياً متوازنا من دون العراق.
سيعتمد الكثير على ما سيحدث في إيران حيث ثورة شعبيّة حقيقية يصعب التكهن بما ستؤول إليه في منطقة تمرّ في مرحلة مخاض.
لم يكن اغتيال رفيق الحريري سوى حلقة أساسية من حلقات هذا المخاض العسير.