تروج دمشق عبر محلليها ومسؤوليها أن الرئيس رجب طيب أردوغان مستميت لمصالحة بشار الأسد وأن المستقبل السياسي لأردوغان وتركيا، كدولة، مرتبطان بتنازل بشار الأسد وقبوله عقد لقاء مع الرئيس التركي.
ثمة أمور في حاجة إلى إيضاح بعيداً عن المبالغات. سياسياً، سيفرض الصلح مع أنقرة على النظام السوري الإعلان رسمياً الاعتراف باتفاق أضنة الذي علم الشعب السوري بوجوده عن طريق الإعلام الخارجي. بناء عليه، سيضطر نظام بشّار الأسد إلى الإعلان رسمياً أمام «جمهوره» أن «القائد الخالد»، على العكس مما يروج له، تخلى رسمياً منذ سنوات طويلة عن لواء الاسكندرون لـ«المحتل التركي».
كيف ستبرر دمشق ادعاءات تحرير كل شبر من الأراضي السورية من الاحتلال التركي، ودمشق محكومة من قبل النظام نفسه الذي تخلى عن تلك الأراضي بموجب اتفاق وقعه من أجل وقف تهديد الاجتياح التركي لشمال سورية في العام 1998 في ظلّ وضع جيوسياسي شبيه بوضع قائم اليوم.
في أحسن الحالات، سيفرض تجديد اتفاق أضنة الحق المعطى للجيش التركي بدخول الأراضي السورية بعمق 30 إلى 35 كلم لملاحقة «إرهابيي» حزب العمل الكردستاني.
بكلام آخر، سيتخلى النظام رسمياً عن أراض سورية جديدة من خلال صراعه المستميت للبقاء على كرسي الحكم في دمشق. يأتي ذلك، في وقت يوجد الجيش التركي حالياً، عبر المعارضة السورية في الشمال السوري في العمق المطلوب من تركيا.
لا يختلف عاقلان على أنّ للرئيس التركي أطماعاً وأهدافاً سياسية شخصية تتمثل في دخول اللعبة السياسية الدوليّة. لذلك نراه يتوسط بين روسيا والغرب في أوكرانيا.
يبدو الحل السياسي للازمة السورية المستمرة منذ 11 عاماً أحد تلك المداخل المهمة التي يريد أردوغان ولوجها. ستفرض أنقرة على دمشق، من ضمن ما يسمى المصالحة، في حال حصولها، شروطها السياسية المتعلقة بالملف السوري، وأهم تلك الشروط تطبيق القرار الدولي 2254.
يأتي ذلك في وقت تبدو أنقرة مصرّة على مشاركة المعارضة في الحكم عبر عملية سياسية تصل إلى التغيير الكامل في شكل النظام السوري وهيكله.
يعلم بشار الأسد وإفراد الحلقة الضيقة المحيطة به أن القرار 2254 هو بمثابة الفخ الذي نصب له عبر تفاهم روسي - أميركي آنذاك.
أجبرت موسكو الأسد على القبول بالقرار. لكنّ الأسد نجح في التهرب منه من خلال ممارسة الأعيب سياسية استوعب من خلالها بحنكة وزير خارجيته الراحل وليد المعلم المبعوثين الدوليين ستافان دي ميستورا وغير بيدرسون من بعده، عبر إغراقهما بالتفاصيل، والانخراط في «سلال دي ميستورا»، ومتاهات اللجان الدستورية، ولقاءات لا تنتهي للمجتمع المدني...
على الرغم كل تلك الالاعيب، نجد سورية نفسها تغرق اليوم في الجوع والبرد والفقر في أزمة اقتصادية لم تشهد مثيلاً لها. تشكل الأزمة الراهنة أكبر خطر وجودي على البلد في حدوده الراهنة منذ اتفاق سايكس - بيكو.
إضافة إلى ذلك، يعلم الأسد والحلقة الضيقة المحيطة به أن بوتين أصبح أضعف من أن يفرض أي قرار أو أي تغيير. الرئيس الروسي يحتاج اليوم، في ضوء ورطته الأوكرانيّة، لبشار الأسد كي يحافظ على ما حققه من خلال التموضع في شرق المتوسط.
بالعودة الى المصالحة، إن أنقرة تصر على أن العودة الطوعية للاجئين السوريين الى بلدهم. هذه العودة سمتها أنقرة في أغسطس الماضي «مناطق تجريبية» في دمشق وحمص وحماه. هذا ما يرفضه بشّار شخصياً من منطلق أن المجتمع السوري أصبح «متجانساً» بخروج هؤلاء السوريين من مناطق سيطرته.
ثمّ كيف سيستطيع النظام السوري المفلس أن يقدم أبسط الخدمات إلى العائدين من تركيا ولبنان، وهو حالياً عاجز تماماً عن دفع قسم من مستحقات ذوي قتلى الشباب العلويين ومداواة جرحاهم وتوفير التدفئة والغذاء بأقل حدودهما لأهل بيئته الذين ماتوا وأصيبوا دفاعاً عن النظام؟
هناك عنصر مهم آخر لا يمكن تجاهله. يتمثل هذا العنصر في أن إيران التي تسيطر على قرار بشار الأسد، لن تقبل أي مصالحة أو عملية سياسية تودي إلى عودة السوريين إلى ديارهم التي هجروا منها.
إن عودة ملايين السنة إلى مناطقهم، كما تريد أنقرة، سيفشل مشروع التغيير الديموغرافي الذي رأى النور عبر تهجير ثمانية ملايين سوري سني إلى خارج سورية وتهجير سبعة ملايين آخرين داخلياً بما سهل على إيران استكمال فتح طريق طهران - بيروت عبر العراق وسورية.
إضافة إلى ذلك، تروج جهات تابعة للنظام السوري أن تركيا ستقدم بعض الخدمات إلى سورية مثل الكهرباء وفتح المعابر التجارية لفك الحصار الدولي في حال المصالحة.
هذه مجرّد أوهام. الدليل أن كل المحاولات لدعم لبنان لتأمين ساعات إضافية من الكهرباء عبر تمرير الغاز المصري عبر الأراضي السوريّة باءت بالفشل بسبب رفض الإدارة الأميركية أيّ احتمال لاستفادة دمشق من عبور الغاز. فكيف ستسمح لتركيا بأن تتعاون مع نظام الأسد وتساعده على البقاء؟
تكبر مشاكل الأسد كل ساعة، فهو أصبح اليوم «جنرال نورييغا» القرن الواحد والعشرين بعدما صار متّهماً بتزعم نظام مصنّع للمخدرات ومروج وداعم لها في دول الإقليم والعالم. يؤكّد هذا التوجه الأميركي التعديل الجديد لقانون العقوبات على سورية (قانون قيصر).
أصبح «قانون قيصر» أشدّ إيلاما لأي طرف يحاول تجاوز العقوبات الأميركية المفروضة على سورية. هل تخاطر تركيا أو أي دولة أخرى، غير روسيا وإيران وكوريا الشمالية، وتهدد اقتصادها وتتحايل على العقوبات الأميركية في سبيل مصافحة وصورة تذكارية لأردوغان مع الأسد؟ لا مفرّ من العودة بالذاكرة دائماً إلى أنّ الليرة التركية تلقت ضربات مؤلمة عدة في العامين الماضيين.
في نهاية 2022، تبدو دمشق ونظامها دخلا أمتاراً إضافيّة في النفق الذي سيؤدي الى نهاية تبدو معروفة بالنسبة إليهما. هل ستشهد السنة 2023 مفاجآت سورية كبرى من النوع الذي أشار إليه ابن خال الأسد وشريكه السابق رامي مخلوف الموجود في نوع من الإقامة الجبرية منذ أشهر عدّة؟