خيرالله خيرالله
كلام كثير يتردد مجددا هذه الايام عن الخوف على الاردن. بعض هذا الكلام صادر عن اشخاص من ذوي النيات الحسنة لديهم غيرة على الاردن والاردنيين. وبعض آخر صادر عن اشخاص يريدون السوء للملكة. وبعض اخير من الكلام يصدر عن اشخاص لا يعرفون شيئا عن البلد وعن الازمات التي مرّ بها في الماضي والتي استطاع تجاوزها، بفضل مؤسساته أوّلاومن منطلق أنّه قادر في استمرار على التكيف مع ظروف الداخل والخارج في آن.
في كلّ الاوقات، استطاعت الاردن تجاوز المحن، بما في ذلك حرب 1967 والصدامات مع المسلحين الفلسطينيين، لسبب في غاية البساطة. يتمثل هذا السبب في القدرة التي يمتلكها الملك، اكان الحسين بن طلال، رحمه الله، او عبدالله الثاني، على البقاء على تماس مع الواقع، الواقع الاردني الداخلي الذي اسمه تركيبة البلد بشقيه الاردني والفلسطيني والواقع الاردني بابعاده الاقليمية والدولية.
للمرّة المليون، لا يمكن تجاهل أنّ المملكة تمرّ بأزمة اقتصادية عميقة زاد تدفق اللاجئين السوريين من حدّتها. ولكن للمرّة المليون ايضا، لا يمكن تجاهل أنّ هناك بحثا جديا عن حلول للأزمة بغية تخفيف وطأتها.
هناك بحث جدّي عن مخارج تأخذ في الاعتبار ما تمتلكه الاردن من ثروات، على رأسها ثورة الانسان الذي يفترض به أن يعي اخيرا أنّ العمل ليس عيبا وأن واجب الدولة مساعدته في ايجاد الوظيفة وليس الحلول مكانه في اداء ما تفرضه الوظيفة. ما زال مبكرا التفاؤل بأن هناك وعيا لاهمية العمل الجدّي وضرورته وبأن مهمّة الملك عبدالله الثاني لا يمكن أن تقتصر على السعي الى الاتيان بمساعدات بغية توزيعها على الاردنيين.
لكنّ ذلك يجب أن لا يحول دون الاقرار بأنّ هناك من يتخذ قرارات شجاعة تشمل بين ما تشمل اقناع الاردنيين بأن بلدانا فقيرة قادرة على تجاوز ازماتها الاقتصادية بفضل الثروة التي اسمها الانسان. الاكيد أنّ الخطوة الاولى في هذا المجال تتمثل في بذل جهود تصبّ في تحسين مستوى التعليم من جهة والعمل من جهة اخرى على استغلال الثروات المتوافرة، مهما كانت قليلة، والبحث عن ثروات جديدة. مثل هذا البحث سيساهم الى حدّ كبير في ايجاد وسائل تخفف من عبء فاتورة المحروقات من بنزين ومازوت وغاز.
ليس سرّا أنّ الاردن تبحث عن كيفية بناء محطات نووية تساعد في انتاج الكهرباء وتحلية المياه. البرنامج النووي الاردني سلمي مئة في المئة. المملكة لا تحتاج الى شهادة من أي طرف على أن كلّ ما تبحث عنه وتسعى اليه يندرج في اطار تأمين حاجاتها في مجال الطاقة نظرا الى أنّ ذك سيخفف من حدة الازمة الاقتصادية.
يترافق الجهد الاردني الهادف الى مواجهةالازمة الاقتصادية مع جهد من نوع آخر في مجال الاصلاحات السياسية. تبيّن مع مرور الوقت أنّ الاصلاحات جدّية. الدليل على ذلك طريقة تشكيل الحكومة الجديدة برئلسة الدكتور عبدالله النسور. جاء تشكيل الحكومة، الذي سبقه تكليف النسور تولي رئاستها بعد مشاورات مع الكتل البرلمانية تولاها الدكتور فايز الطراونة رئيس الديوان الملكي الذي رفع الى العاهل الاردني تقريرا تضمّن نتائج المشاورات. في ضوء التقرير، عاد عبدالله النسور الى موقع رئيس الوزراء.
لا يمكن في أيّ شكل تجاهل أنّ الطريقة التي اعتمدت في اختيار رئيس الوزراء شكّلت سابقة، ذلك أن تكليف النسور تشكيل الحكومة الجديدة جاء نتيجة لمشاورات نيابية وليس لمجرّد أن الملك اعتمد هذا الخيار. هذه بداية جيّدة لما يمكن وصفه بترسيخ سابقة المشاورات النيابية.
صار في الامكان الحديث عن المملكة الثانية في الاردن، وهي تختلف عن المملكة الاولى في أنّ مجلس النواب بدأ يمارس الدور الذي يفترض به ممارسته. انها مجرّد بداية في بلد لاتزال التجربة الديموقراطية فيه طرية العود وذلك بسبب الهزات التي تعرّض لها منذ خمسينات القرن الماضي. أدت هذه الهزّات الى تعطيل الحياة الديموقراطية غير مرّة والى الحؤول دون نشوء حياة حزبية سليمة تسمح بتشكيل حكومات مدعومة من اكثرية نيابية ذات برامج سياسية واقتصادية واضحة وعصرية.
المؤسف أنّ الحزب الوحيد المنظم في الاردن هو "الاخوان المسلمين" الذين اعتقدوا أنّ في استطاعتهم فرض قانون انتخابي يمكنهم من وضع اليد على كلّ السلطات. فشلوا في ذلك فشلا ذريعا بعدما راهن عبدالله الثاني على الاردنيين، فيما كان رهانهم على الشعارات. وجاءت التجربة المصرية التي اراد الاخوان تكرارها في الاردن لتثبت أن الشعارات لا تحلّ مشكلة ولا تطعم خبزا ولا توفّر الكهرباء، حتى لبلد يمتلك الغاز والنفط مثل مصر!
هناك رأي عام اردني بدأ يعي أنّ لا عودة عن الاصلاحات. الاهمّ من ذلك، أنّ هناك بداية وعي لاهمية اتخاذ قرارات صعبة مؤلمة احيانا.
امتلك عبدالله النسور، في أيّام حكومته الاولى، ما يكفي من الشجاعة لاتخاذ قرار برفع اسعار المحروقات. الاكيد أن القرار ليس شعبيا، لكنّ الاكيد ايضا أنّ لا بديل منه، خصوصا أن الاردن تتعرّض لهجمة من بعض الدول، بمن فيها اسرائيل، لتعميق ازمتها الاقتصادية.
في كلّ الاحوال، من الطبيعي أن يكون هناك من يخاف على الاردن في منطقة مقبلة على تغييرات كبيرة. ولكن ما هو طبيعي اكثر التمعّن في التجربة الاردنية وفي كيفية لجوء عبدالله الثاني الى سلسلة اجراءات بدأت بتعديل الدستور وصولا الى اجراء الانتخابات، كي يقتنع الاردنيون أنّهم جزء من الاصلاح وأن على المواطن تحمّل مسؤولياته مثلما أنّ على النواب اداء دورهم بدل الاكتفاء بالمناكفات والظهور في مظهر الخائف من مزايدات الاخوان المسلمين. يُعتبر هؤلاء موضة هذه الايام. لكنها ليست موضة قابلة للاستمرار طويلا.
من يعود قليلا الى خلف يتذكّر أن الهاشميين واجهوا كلّ انواع المزايدات والمزايدين. واجهوا الناصرية والقوميين العرب وشعاراتهم القومجية بكل انواعها. وواجهوا اليسار الفلسطيني وغير الفلسطيني فضلا عن ارهاب النظام السوري وظلم ذوي القربى احيانا...
لا يوجد سبب هذه الايّام كي يغلب التشاؤم على التفاؤل، خصوصا بعد ظهور بداية استيعاب لاهمية رفض الاستسلام للغوغاء اكان ذلك لدى الشرق اردنيين او لدى الاردنيين من اصول فلسطينية.
مثل هذا الوعي، يعني في جزء منه أنّه لم تكن في يوم من الايّام ثورة شعبية في الاردن كما هو حاصل في سوريا... وأن سيئي النية هم فقط من يحاول اجراء مقارنة بين بلد فيه مؤسسات وبلد لم يعرف منذ ما يزيد على اربعة عقود سوى سياسة التشبيح والابتزاز واختراع دور اقليمي وهمي لم يخدم يوما سوى اسرائيل.