خيرالله خيرالله
أنها علامة من علامات الزمن الجديد، زمن التخلّص من النظام الذي قضى على سوريا وعلى كلّ ما هو حضاري فيها ولعب دورا محوريا في تغيير طبيعة المجتمع السوري.
ما سقط في مخيّم اليرموك، وهو ضاحية من ضواحي دمشق، رمز من رموز النظام السوري. أنه رمز بكلّ ما في الكلمة من معنى، رمز لما مارسه هذا النظام طوال ما يزيد على اربعة عقود على الصعيد الفلسطيني. أن يستخدم النظام السوري سلاح الجوّ لقصف مخيّم اليرموك جنوب دمشق دليل على فقدان السيطرة على المخيّم. اخيرا صار من حق فلسطينيي اليرموك، بعد لفظهم احمد جبريل، قول ما يقوله أي فلسطيني آخر داخل فلسطين او في الشتات. يقول هذا الفلسطيني العادي بكلّ بساطة أنه ليس سلعة يتاجر بها النظام السوري داخليا وعربيا واقليميا ودوليا.
انضمّ مخيّم اليرموك الى مخيّمات اخرى تعرّضت لهمجية النظام السوري اكان ذلك في سوريا او في لبنان. ما لا بدّ من ملاحظته هنا أنّ مخيم اليرموك الذي صمد واصبح في النهاية حرّا، لم يكن يضمّ فلسطينيين فقط، تحوّل الى مكان يلجأ اليه السوريون الآتون من الارياف الذين اقاموا في ما سمّي العشوائيات. كانت العشوائيات احدى مظاهر الازمة العميقة للنظام السوري الذي لم يمتلك يوما أي حلّ لاي مشكلة، اكانت اقتصادية او اجتماعية او سياسية.
لم يستوعب النظام يوما معنى نمو احزمة الفقر في جوار المدن السورية. بقي اسير شعاراته المضحكة-المبكية من نوع "المقاومة" و"الممانعة". وبقي همّه محصورا في كيفية تصدير الارهاب الى لبنان والاردن والبحرين والعراق وتركيا والخليج العربي او افشال أي خطوة ايجابية يمكن ان يقدم عليها الفلسطينيون تصبّ في اتجاه الحصول على حقوقهم المشروعة.
لم يتنبه يوما الى ظاهرة العشوائيات في جوار المدن التي توفّر بيئة مواتية لنمو التطرف الديني. لا يشبه العجز عن استيعاب ظاهرة العشوائيات غير العجز عن فهم أن تشجيع التطرف المذهبي في لبنان عن طريق دعم الميليشيا الايرانية المسماة "حزب الله"، لا يمكن الاّ أن يرتد، عاجلا ام آجلا، على النظام السوري داخل سوريا نفسها.
كان احمد جبريل الامين العام لـ"الجبهة الشعبية- القيادة العامة" جزءا لا يتجزّأ من النظام الامني السوري. كان الضابط السابق في الجيش السوري، الذي اكتشف أن له وظيفة فلسطينية، يمثّل افضل تعبير عن حقد دفين لدى هذا النظام تجاه كلّ ما هو فلسطيني. القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني ليسا سوى اداة تستخدم في ابتزاز هذا الطرف العربي او الدولي او ذاك.
تعطي ممارسات احمد جبريل في لبنان فكرة عن الدور المطلوب من كلّ فلسطيني أن يلعبه، من وجهة نظر النظام السوري. ما يذكره اللبنانيون عن احمد جبريل أنّه نفّذ كلّ المهمات الوسخة، بما في ذلك الاغتيالات، التي كانت الاجهزة السورية لا تريد تنفيذها بشكل مباشر. كان مقاتلوه، على سبيل المثال، يمارسون الخطف على الهوية في كلّ مرة كانت تهدأ فيها الجبهات. حصل ذلك في بداية الحرب اللبنانية التي كان الفلسطينيون للاسف الشديد طرفا فيها...بارادتهم الحرّة احيانا وبأرادة سورية في معظم الاحيان.
ساعد احمد جبريل في توريط الفلسطينيين في الحرب اللبنانية. كان يزايد باستمرار على ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني الذي غرق في المستنقع اللبناني الى ما فوق اذنيه.
حصل ذلك بدفع سوري لم يحسن "ابو عمّار" في احيان كثيرة التعاطي معه، خصوصا أنه كان هناك عملاء للنظام السوري داخل قيادة "فتح" نفسها. على العكس من ذلك، وقع "ابو عمّار" في الفخ الذي نصبه له الرئيس الراحل حافظ الاسد. استغلّ الاسد الاب الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان كي يقدّم نفسه للعالم بأنّه الوحيد القادر، بفضل جيشه، على ضبط "مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية". وهذا التعبير هو الذي استخدمه هنري كيسينجر في تبريره السماح للاسد الاب بارسال قواته الى لبنان...
لم تكن من مهمة لاحمد جبريل في مرحلة ما، خصوصا في 1975 و1976 و1977 سوى توريط "ابو عمّار" اكثر في الحرب اللبنانية وذلك عن طريق المزايدة عليه. ولعلّ الانجاز الاكبر للامين العام لـ"الجبهة الشعبية- القيادة العامة" في تلك المرحلة تدمير الفنادق اللبنانية الواقعة على شاطئ بيروت واحدا واحدا اشباعا لاحقاد حافظ الاسد على كلّ نجاح لبناني...او سوري!
بعد خروج القوات الفلسطينية من لبنان، عاد احمد جبريل الى الوطن الصغير ليقيم فيه قواعد" سورية"، بينها قاعدة في الناعمة، جنوب بيروت. لم يعترض احد على ذلك، خصوصا أنه دخل باكرا على الخط الايراني، وصار حليفا لـ"حزب الله" بعدما تخلى عنه معمّر القذّافي. لعب دائما الادوار المطلوب منه ان يلعبه سوريا. ولذلك نفّذ مخططات تسيء الى الفلسطينيين والى الخط الذي انتهجه ياسر عرفات الذي نادى بـ"القرار الفلسطيني المستقلّ". لم يقصّر احمد جبريل في اي مجال من المجالات التي تصبّ في التخريب على الفلسطينيين والاساءة الى قضيتهم. ولذلك استهدف دائما الاردن، في عهدي الملك الحسين، رحمه الله، والملك عبدالله الثاني. استهدف الاردن لأنّها لعبت دورا مهمّا في مساعدة الفلسطينيين على الاتجاه الى حلول واقعية تعيد لهذا الشعب جزءا من حقوقه بدل بقائه مشرّدا خارج خريطة الشرق الاوسط.
هناك ابعد بكثير من هزيمة احمد جبريل المتمثلة في طرده من مخيّم اليرموك. انها هزيمة لنهج وسياسة يقومان على "التشبيح". كان احمد جبريل "الشبّيح الفلسطيني" بامتياز. اسس لولادة "الشبيحة السوريين" الذين استخدمهم النظام في مواجهة شعبه. الاكيد أنّ طرده من اليرموك الذي يشكّل هزيمة تليق به، مؤشر الى مرحلة جديدة في سوريا. قد تكون هذه مرحلة عودتها بلدا طبيعيا يعتبر المتاجرة بالفلسطينيين وقضيّتهم عيبا، بل عارا، وليس دورا اقليميا، اقرب الى الحال المرضية والوهم من ايّ شيء آخر.