هل ينجح نموذج بوتين حيث فشل الآخرون

هل ينجح نموذج بوتين حيث فشل الآخرون؟

هل ينجح نموذج بوتين حيث فشل الآخرون؟

 العرب اليوم -

هل ينجح نموذج بوتين حيث فشل الآخرون

جورج سمعان

الرئيس فلاديمير بوتين استعجل تحريك ديبلوماسيته مثلما استعجل في زج قواته في الحرب السورية. لا يريد لانخراطه الميداني أن يطول ويضيع في متاهات ومواجهات بدأت تلوح في الأفق. لن يترك لخصومه فرصة إعادة رسم خططهم وسياساتهم. يريد فرض واقع يتيح له فرض التسوية التي تناسب مصالحه أولاً وأخيراً. يريد توسيع انتشاره في المنطقة، ما دام عاجزاً عن إقناع خصومه الغربيين بهضم ما انتزع وينتزع من أوكرانيا. أرهقته العقوبات وتدني أسعار النفط ومتاعب اقتصاده وتراجع الروبل. ولا سبيل لامتصاص أي نقمة في الداخل سوى اللجوء إلى الفضاء القريب والبعيد تحت شعار استعادة مجد الإمبراطورية. لكن هذه السياسة قد لا تنجح. ولن يستطيع مساعد وزير خارجيته ميخائيل بوغدانوف إقناع أطياف المعارضة، خصوصاً المسلحة بمشروعه للتسوية. إلحاق خلل فادح في ميزان القوى وتغليب كفة النظام لا ينتج تسوية. وتركيز حربه على الجبهات الساخنة مع خصوم النظام لن تقنع هؤلاء بوجوب التسليم، بل إن توجه الأطراف الخارجية إلى تعزيز قدرات هؤلاء عتاداً وأسلحة فعالة سيدفعهم إلى مزيد من التشدد.

تحريك موسكو عجلة الديبلوماسية مواكبة لحملتها العسكرية هدفه تقليص أمد انخراطها في الحرب، وفرض أجندتها وأولوياتها في التسوية، والتي تتجاوز حدود سورية إلى ما بعد أوكرانيا. كان هذا واضحاً بعد اللقاءات التي عقدها الزعيم الروسي مع نظرائه الغربيين. مشكلته أن هؤلاء، خصوصاً الأميركي، لم يُبدوا أي استعداد للمقايضة بين أزمة وأخرى. علماً أن سكوتهم عن مواجهته في السابق، في جورجيا ثم في أوكرانيا، دفعه إلى إعادة الانتشار فوق ما كان يعد للاتحاد السوفياتي وقبله للقيصرية. لم تأت القوات الروسية للحفاظ على النظام في دمشق أو لمواجهة «داعش» فحسب، أتت للحفاظ على مصالحها وحماية النظام في موسكو. «الدولة الإسلامية» قامت قبل نحو سنة ونصف السنة، وتعرض النظام في سورية لتهديدات كبيرة في السنوات الأربع الماضية، لكن الكرملين لم يتحرك. وعودة بالذاكرة إلى بداية الأزمة تلقي الضوء على ما يجري هذه الأيام: الرئيس ديمتري مدفيدف في نهاية عام 2011، دعا نظيره السوري إلى تطبيق إصلاحات أو التنحي. وكان حذره قبل ذلك من «مصير محزن» ما لم يستمع إلى مطالب المعارضين. وكان رئيس وزرائه يومذاك فلاديمير بوتين سبقه إلى أن بلاده «ليست لها مصالح واستثمارات في سورية للدفاع عنها»!

ولكن، على رغم ذلك لم تتخلَّ موسكو عن الـ «فيتو» في مجلس الأمن في أي قرار يخص دمشق. لا تريد خسارة هذا البلد، وخسارة صفقات السلاح معه ومع غيره في المنطقة كلها. وتريد تحويل موطئ قدم أسطولها في طرطوس قاعدة عسكرية كبيرة في المتوسط وشرقه. تريد العودة إلى ماضيها في مصر والعراق وغيرهما. ولا ترغب في تكرار التجربة الليبية، حيث وجدت نفسها خارج ما يرسم لمستقبل هذا البلد. عارضت بشدة ولا تزال أي محاولة لتغيير أي نظام لا تروق سياسته للغرب، على حد زعمها. لكنها تدرك جيداً أن ليبيا لم تكن درساً لها وحدها. شكلت درساً لواشنطن أيضاً بعد درس العراق. والواقع أن ما تريده العاصمتان هو ألا يتكرر في سورية ما حصل في هذين البلدين. كما أن تأكيد الرئيس باراك أوباما استعداده للتعاون مع نظيره بوتين اعتراف صريح بأن بلاده عاجزة وحدها عن فرض الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط. ومنع المنطقة من الانزلاق إلى مزيد من الانهيارات والتفكك. ولو كانت قادرة على التحرك وحيدة في شرق تنهشه الحروب الأهلية والمذهبية والعرقية، لما نادت قوى أخرى إلى المساعدة. والذين ينتظرون منجزات نوعية لتدخل روسيا اليوم، يجب ألا يغيب عن بالهم أن القوة مهما عظمت لا يمكنها فرض التسويات من خارج. هذا ما حصل للقوة الأميركية الضاربة في أرض الرافدين. وهذا ما حصل لقوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان أيضاً. لم تستطع كل هذه القوى فرض نظام سياسي في بغداد تجمع عليه كل المكونات، بل واجهت جيوش الغرب حروباً ومقاومات متعددة. ولا تزال قوى كثيرة ترفض حتى اليوم تدخلهم الميداني. تستنجد بغداد بالأميركيين لغطاء جوي هنا وهناك. وتلومهم على عجزهم وعجز تحالفهم الدولي الواسع في احتواء «الدولة الإسلامية» والقضاء عليها. كأن الجيوش الأميركية قوات مرتزقة لوقت الحاجة!

ما دفع الرئيس بوتين على مغامراته العسكرية، حماية نظامه في الداخل ومصالح بلاده في الخارج. وساعده انكفاء خصمه، إذ كان واضحاً أن الرئيس أوباما منذ وصوله إلى البيت الأبيض ظل أسير شعاراته والتزاماته لإعادة الجنود الأميركيين إلى بلادهم، وتصفية «الحروب الاستباقية». وأنه لن يجازف في خوض حروب جديدة. وهو إلى اليوم لا يريد الانجرار إلى بؤر التوتر في المنطقة. والذين يصفونه بالتردد وغياب الرؤية والحزم والمجازفة بسمعة أميركا يعرفون أنه لم يحد عن سياسته المرسومة منذ اليوم الأول. استراتيجيته هي دعوة أهل الإقليم إلى تسوية مشاكلهم بأنفسهم. ولا شك في أن الاتفاق النووي مع إيران طوى صفحة توتر دائم مع طهران. لكن هذا الاتفاق لم يصرفه إلى الاهتمام بقضايا أخرى نحّاها جانباً طوال فترة المفاوضات بين الجمهورية الإسلامية والدول الست الكبرى على برنامجها النووي. لم يتحرك لضبط التوازن بين هذه الجمهورية والقوى الأخرى، خصوصاً العربية. لم يفعل ذلك حتى عندما فرضت طهران حليفها نوري المالكي رئيساً لولاية ثانية عام 2010. ولم يتحرك لتصويب سياسة حكومة زعيم «دولة القانون» التي انتهت بقيام «دولة أبي بكر البغدادي». ولم يتحرك لوقف تمدد الحوثيين في اليمن. ولم يلجأ إلى دعم فصائل المعارضة السورية بمواجهة الدعم الإيراني والروسي للنظام. ترك للقوى الإقليمية أن تصحح بنفسها ميزان القوى على الأرض، لإيمانه بأن مثل هذا الأمر يعفيه من الانخراط الميداني المباشر لتصحيح الخلل.

وأمام عجز الأطراف الإقليميين المتصارعين، عرباً وإيرانيين وأتراكاً، عن التفاهم على الحد الأدنى وادارة أزمات المنطقة وتسويته، دفعهم إلى الاستنجاد بالقوى الكبرى. وهو ما أتاح لروسيا أن تتدخل بقوة لملء الفراغ أولاً. وسعياً إلى فرض توازنات جديدة على الأرض تسمح لها برسم التسويات بما يرسخ مصالحها. لكن الحرب التي تخوضها في سورية لا تنبئ بأن كسر التوازن لمصلحة النظام يمكن أن ينتج حلاً سياسياً للأزمة. ذلك أن عمليات قواتها لا تستهدف «داعش» بقدر ما تستهدف الفصائل المعارضة التي يفترض أنها معنية بالتسوية، وبالحركة الديبلوماسية التي يقودها بوغدانوف. وإذا قيض للتدخل العسكري الروسي أن يغلب كفة دمشق في الميدان، فإن تسويق موسكو فكرة الحكومة الوطنية الجامعة قد لا يلقى قبول معظم أطياف المعارضة... وحتى النظام أيضاً. على رغم أنها مهّدت لديبلوماسيتها برسائل إلى جميع المعنيين بالأزمة: فرضت حل ميليشيات «الدفاع الوطني» التي رأى إليها كثيرون في الداخل والخارج الذراع الرئيسية لإيران، والبديل المقبل من المؤسسة العسكرية. ونشطت في إعادة تأهيل القوات النظامية. أراحت جموع أهل الساحل وطمأنتهم إلى المستقبل والمصير. سيتضاءل تعلقهم بالرئيس بشار الأسد الذي ولّد تسليمه القياد لـ «الحرس الثوري» وحلفائه في إدارة البلاد والعباد بعد المعارك، استياء وغضباً. ستتراجع هيبته أكثر عندما يُلزمه الحل بالتنازل عن صلاحياته الشاملة وإشراك الآخرين. كما أن هذه الإجراءات تخفف من وطأة اليد الإيرانية، وتضع اليد الروسية فوقها. وفي ذلك بعض الاطمئنان للأقليات، ولأهل السنّة ومن يساندهم في دول الجوار. بل لعل ذلك يستجيب رغبة كثيرين من المتصارعين على الأرض السورية، ما دام أنه يؤدي إلى منع انهيار المؤسسات أو ما بقي منها كما حصل في ليبيا والعراق.

صحيح أن تدخل روسيا فرض وقائع جديدة، لكن الصحيح أيضاً أن خصومها يتكيفون سريعاً مع هذه القواعد: مزيدٌ من العتاد والأسلحة الفعالة لفصائل المعارضة. وسياسة جديدة لواشنطن في التعامل مع عدد من الفصائل وقادتها بديلاً من برنامج التدريب الفاشل، واعتمادها خططاً مختلفة للتعامل مع «داعش». هذا التحول يشي بأن الانكفاء الأميركي ليس غياباً كلياً. ولم يقفل البابَ أمام خيارات لن تسمح لروسيا بضرب ميزان القوى على الأرض السورية والإخلال به لمصلحة الأسد، والاستئثار تالياً برسم النظام الإقليمي. إلا إذا برهن بوتين على أن «تحالفه» في قتال الإرهاب أكثر نجاعة من «تحالف» أوباما. وأثبت أن نموذجه «الديموقراطي» في روسيا يصلح لبلاد الشام ولأهل الإقليم عموماً حيث عجزت أو فشلت النماذج الأخرى: النموذج الأميركي في الشرق «الكبير»، والنموذج الإيراني في العراق وسورية واليمن، والنموذج الغربي عموماً في أفغانستان وليبيا أيضاً، وحتى نموذج «العدالة والتنمية» الأردوغاني... علماً أن ما حل بجورجيا وأوكرانيا لا يبشر بخير كثير. هناك اكتفت موسكو بما اقتطعت، واكتفى خصومها بحصاد الفوضى، وبالتنديد الذي لا يسمن ولا يغني! لن يكون الانتظار طويلاً لترى إدارة أوباما وشركاؤها ما بقي في جعبة بوتين من مفاجآت.

arabstoday

GMT 06:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 06:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

المالك والمستأجر.. بدائل متنوعة للحل

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 06:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

أوهام مغلوطة عن سرطان الثدي

GMT 06:31 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 06:29 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 06:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لقاء أبوظبي والقضايا الصعبة!

GMT 06:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الفاتيكان... ومرثية غزة الجريحة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل ينجح نموذج بوتين حيث فشل الآخرون هل ينجح نموذج بوتين حيث فشل الآخرون



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية
 العرب اليوم - شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أشرف حكيمي يمدد عقده مع باريس سان جيرمان حتي عام 2029

GMT 18:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 09:37 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ثوران بركاني جديد في أيسلندا يهدد منتجع بلو لاجون الشهير

GMT 22:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 11:06 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مستشفى كمال عدوان بدون أكسجين أو ماء إثر قصف إسرائيلي مدمر
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab