«القرية الكونية» والمشارح والدموع

«القرية الكونية» والمشارح والدموع

«القرية الكونية» والمشارح والدموع

 العرب اليوم -

«القرية الكونية» والمشارح والدموع

غسان شربل
بقلم غسان شربل

كانت بغداد تتلوَّى على دوي الانفجارات واختلاط الدم بالركام. اتَّهم مسؤولٌ عراقيٌّ وسائلَ الإعلام بالمبالغة في عدد الضحايا وانطلق جدالٌ في الموضوع. غلبني الفضولُ الصحافي، فطلبتُ من صديقٍ عراقي أن يبحثَ لي عن رقم المشرحة في بغداد. وحين عثرَ عليه اتصلت، وطلبت التحدثَ إلى المسؤول عن المكان.
سارع الرجلُ إلى القول إنَّه مواطنٌ عادي ولا يحقُّ له التحدّثُ باسمه. طمأنته فأجابني أن معدّلَ الجثث التي تصل يومياً يراوح بين سبعين وثمانين، وهي حصيلة تفجيرات وعمليات خطف وتصفيات. شكرتُ الرجلَ وسألته عن قسوة وظيفتِه، وكيف يستطيع العيشَ بين الجثث. قال: «هذه وظيفتي وقدري ولقمة عيشي. ثم إنَّك تعتاد على رؤية الجثث. ما لا تعتاد عليه هو دموع الأمهات والزوجات، حين يعثرن على الجثة وحين لا يعثرن عليها».
حين تكون صحافياً ومن الجزءِ الرهيب من الشرق الأوسط الرهيب، يصبح السؤال عن الجثث بنداً في لائحة اهتماماتك. لكنَّني شعرت أنَّ سيدَ المشرحة يعتبر دموعَ الأمهات والزوجات أقسى من مشهد تلك الجثث التي تبحث عمَّن يواريها.
عادت قصة المشرحة إلى بالي وأنا أقرأ تقريراً في «نيويورك تايمز» عن أمهات روسيات يتردَّدن على المشرحة، للسؤال عن مصير أولادهن الذين أرسلوا إلى أوكرانيا وانقطع معهم كل اتصال. وشعرت بالقسوة حين قرأت أنَّه يتعيَّن على الأمهات التحديق في سيل من الصور، بعضها مشوَّه بفظاعة، للتعرف على خاتم أو علامة فارقة. وعلى المقلب الآخر من الحرب تتوجَّه أمهات وزوجات أوكرانيات إلى المشارح بحثاً عن جثث من ماتت هواتفهم، كأنها تعلن موتَهم من دون البوح بمكان جثثهم أو ما تبقَّى منها.
تعلمت أوجاعَ الحرب باكراً. كنت في أول المهنة، وأملك من الحماسة أكثر ممَّا أملك من التحفظ. أعلن وقف لإطلاق النار فكلَّفني مدير «النهار»، سامحه الله، الذهاب إلى مستشفى في الشطر الشرقي من العاصمة. ذهبت وسألت عن الضحايا فأرشدوني إلى قاعة. كان المشهدُ رهيباً. أكثرُ من ستين جثةً ممددةً على الأرض ومغطاة بشراشف. خاف زميلي المصور من ضيق الوقت فكلَّفني أصعب مهمة في العمر. رحتُ أكشف الشراشفَ ليتسنى له التقاط الصور. وكانت بينها جثثٌ صغيرةٌ لا تزال تزورني كلما اندلعت حرب وانهمكت مع الزملاء في تسجيل ويلاتها.
وتعلمتُ درساً آخر في شوارع بيروت. كانت الميليشيات تشيَّع الضحايا بهتافات الثأر ورصاص غزير. وكانت صور الشهداء تتكاثر وتتزاحم على جدران المدينة. لكن الصور تهرم وكان الخريف يتكفَّل بقتلها، فلا يبقى من الشهداء غير دموع وحسرات الأمهات والزوجات والأيتام.
في السنوات الأخيرة تقلَّبت دولٌ عربية عدة على نار الثورات والحروب. هكذا تحوَّلت الصحف نفسها إلى ما يشبه المشارح. عليها قبل إرسال الصفحات إلى المطبعة إعادة التدقيق في عدد القتلى والجرحى. وكان لا بدَّ من «وجبة» كبيرة مؤلمة للفوز بمقعد بارز في الصفحة الأولى. وفي اللحظات الأخيرة كان دورُ الصحافي يشبه دورَ حفار القبور، إذ عليه إيجادُ مكان للوافدين الجدد.
أغرقني تقرير «نيويورك تايمز» في حديث أوجاع الحرب. الحرب الدائرة على الأرض الأوكرانية أخطر حدث عشناه منذ عقود. ويمكن القول إنَّ العالم دخل في مأزق قد تختصره جملة يردّدها المحللون ومفادها أنَّ فلاديمير بوتين «لا يستطيع أن يخسر». والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل وقع بوتين في فخ، أم أوقع نفسه فيه وأوقع معه العالم؟ يزداد السؤال حدةً فيما يتابع العالم قَلِقاً الحديثَ عن منطقة خيرسون الاستراتيجية. الأسئلة كثيرة. هل قرَّرت روسيا إجلاءَ المدنيين من المنطقة لإبعادهم عن الأخطار، أم لسبب أخطر من ذلك؟ هل ينوي بوتين تحويل معركة خيرسون إلى نسخة عصرية من معركة ستالينغراد؟ هل يريد استدراج الجيش الأوكراني إلى المنطقة ويفاجئه بسلاح يؤدي إلى مقتلة كبرى تقصمُ ظهرَ جيش زيلينسكي، ويعيد إلى الجيش الروسي صورة استنزفتها تسعة شهور من القتال بلا نصر؟ وهل صحيح أنَّ الخروج من النفق الأوكراني لم يعد ممكناً إلا بوضع العالم على شفير وليمة نووية مدمرة يروّج لها ديمتري مدفيديف رفيق بوتين وظله؟ وهل صحيح أنَّ المخرج مقتلة واسعة في أوكرانيا تضخُّ الرعب في عروق العالم فيسارع إلى وقف نار بلا شروط للتفرغ لمواراة الضحايا واختصار آلام العالم؟
أتابع مسيرة بوتين قبيل «استيلائه» على الكرملين. وأعجبت بالرجل الذي أنقذ الاتحاد الروسي من التفكك، وأنقذ معه العالم من مسلسل حروب عرقية ودينية باهظة. وأعجبت به حين قدَّم نفسه رجلاً وديعاً ويداً ممدودة، علماً بأنَّه وافد من إمبراطورية «كي جي بي» ودهاليز التقارير والجواسيس والحبر السري. واعتبرت الرجل صياداً صبوراً يسدّد في الوقت المناسب بعد إخفاء نواياه. وأنَّ لعبة الجودو علمته طرحَ الخصم أرضاً. وتأكدت صورةُ الصياد اللامع حين استعاد القرم، وتدخل عسكرياً في سوريا في خطوة لم يحسن الغرب تقديرَ أبعادها.
إعجاب الصحافي بلاعب كبير يقوده إلى خطأ التوقع. حين عبرت القوات الروسية الحدود الدولية مع أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي، استبعدت أن يكون الصياد الماهر وقارئ التقارير وقعَ في سوء التقدير. توقَّعنا أن يحتل كييف أو يحاصرَها، وأن ينادي العالم إلى حل يقوم مثلاً على إعلان حياد أوكرانيا مع حكم ذاتي موسع للمناطق التي ضمَّها لاحقاً. وفي الشهر التاسع من الحرب ندرك خطأ توقعاتنا. لقد وقع بوتين في الفخ وأوقع العالم معه.
لم يحدث أن كان العالمُ على هذا القدر من الخطورة. مقتلة على الأرض الأوروبية. وجمر تايوان يلوح بالاشتعال. وحفيد كيم إيل سونغ يتسلَّى بالصواريخ ويسرقُ النومَ من عيون المسؤولين في الشطر الجنوبي فضلاً على اليابان. الجنرالات يتفقدون لياقة الترسانات التقليدية والنووية. وأوروبا مذعورة من الشتاء المقترب. وحديث الحبوب والغاز يعد الفقراء بأيام أدهَى. أخطأ بوتين في تقدير صلابة الأوكرانيين وسخاء الغرب في دعمهم. وقع في الفخ وأوقعنا معه.
الحرب ليست فقط جنرالات وخرائط. إنَّها أيضاً جنود يذهبون ولا يرجعون. واقتصادات تنهار وتشيع الجوعَ والمعاناة في أزقة «القرية الكونية». إنَّها ملايين المهجرين ودموع الأمهات الروسيات والأوكرانيات على أبواب المشارح. ننشغل بالاختراقات والتصريحات وموازين القوى. لكن أوجع ما في الحرب تلك الدموع التي ننسى. كانت «القرية الكونية» رمزاً للتقدم العلمي والتكنولوجي والإنساني على رغم الفوارق بين عربات القطار. بعض الظلم لا يبرّر اقتلاع أعمدة الهيكل. من أوقع «القرية الكونية» في زمن المشارح والدموع؟

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«القرية الكونية» والمشارح والدموع «القرية الكونية» والمشارح والدموع



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 20:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
 العرب اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس

GMT 07:06 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مقتل 6 في غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين بغزة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab