مبارزة على سطح سفينة تغرق

مبارزة على سطح سفينة تغرق

مبارزة على سطح سفينة تغرق

 العرب اليوم -

مبارزة على سطح سفينة تغرق

غسان شربل
بقلم: غسان شربل

يَجِدُ المراقبون الأجانب صعوبة في فهم تطورات الوضع اللبناني وانعطافاته المفاجئة. ولا غرابة في ذلك. لبنان ليس ديمقراطية طبيعية تنطبق عليها القواعد المعروفة لهذا النوع من الأنظمة. ديمقراطية لبنان عجيبة وغريبة ولا تشبه إلَّا نفسها. ديمقراطية هشة تمضي أيامها على حافة الانهيار ولا تفلت منه إلا بعلاجات لم تعد اليوم متاحة.
يجد اللبناني صعوبة في أنْ يشرحَ لغير اللبناني ما يدور في بلاد الأرز. اللعبة هناك لا تحكمها القواعد المتعارف عليها لجهة الانتخابات والأكثرية والأقلية. لا يكفي التمعن في بنود الدستور لفهم القصة. صحيح أنَّ هناك دستوراً يفترض أنْ ينظِّمَ حياة هذه الجمهورية المندفعة نحو الإفلاس. لكن الدستور وحده لا يكفي. هناك الانعطافات والالتفافات والالتباسات فضلاً عن براعة مصممي الأزياء الدستورية المستهجنة وهم أصحاب مخيلات تفوق براعة مخيلات أشهر مصممي الأزياء كإيلي صعب وزهير مراد وغيرهما. ويصعب الجزم أنَّ الدستور هو الحكم وصاحب الكلمة الأخيرة. ففي المواسم الصعبة يكون الضحية بدل أن يكونَ الحارس. لقد ترسَّخت عادة احتقار الدستور كما ترسَّخت عادة احتقار المواطن.
كانت ألاعيبُ السياسة اللبنانية تبدو مسلية وظريفة في الأيام الطبيعية. لكنَّها تبدو مؤلمة ومستفزة في بلد يرسل نداءات استغاثة كالسفن الجانحة في البحار. بلد تتردَّد فيه كلمة الانهيار والإفلاس على كل شفة. بلد ينتحر فيه مواطن لعجزه عن تأمين نصف دولار لابنتِه أو يضرمُ النار في نفسه لعجزه عن توفير الخبز أو أقساط المدارس لأولاده.
لا أريد الإفراط في التشاؤم والقول إنَّ لبنان الجميل هو مجرد كذبة اخترعها الرحابنة وروَّجها الذهب المتناثر من صوت فيروز. ولا أريد الانجرار إلى القول إنَّ الرحابنة كذبوا حين أبدعوا.
كنتُ أنوي الكتابة في موضوع آخر. لكنَّ ما حدث البارحة استفزني واستدرجني. كان الانطباع السائد أنَّ الاستشارات النيابية الملزمة التي من المقرر أنْ يجريَها الرئيس ميشال عون بعد طول انتظار وتمنع ستتمخَّض عن تسمية رجل الأعمال سمير الخطيب مكلفاً تشكيل الحكومة التي يتوقع أن تواجهَ أصعب مهمة في تاريخ لبنان المستقل، خصوصاً أنَّ الانهيار الاقتصادي لم يعد خطراً داهماً، بل إنَّ النار صارت في الدار فعلاً. وتردد أن اختيار الخطيب سيعفي التشكيلة الحكومية من بعض الوزراء الذين تميزوا بالشراهة في نكء الجروح وتسميم ما بقي عذباً من مياه التعايش اللبناني.
فجأة خرج الخطيب من دارة مفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان ليعلن انسحابَه من السباق بعدما تبلغ أنَّ الطائفة السنية مجمعة على تأييد سعد الحريري رئيساً للحكومة. وكان الحريري أعلن سابقاً أنه غير راغب في تشكيل الحكومة الجديدة بعدما أصرَّ الفريق الآخر على أن تكون حكومة تكنوسياسية وليست حكومة تكنوقراط كما اقترح، مشدداً على أنها الصيغة الوحيدة الممكنة للتصدي للانهيار الاقتصادي والمالي والعودة إلى مخاطبة المجتمع الدولي واستجداء المساعدات منه.
وسواء أدَّى هذا التطور المفاجئ إلى تأجيل الاستشارات أم إلى إبقائها، فقد بدت واضحة صعوبة تجاوز ما بات يعرف بـ«عقدة الحريري». وهي عقدة بدأت منذ دخول والده في 1992 نادي رؤساء الوزارات بهالة استثنائية وبصفته قوة ضاربة تستند إلى ترسانة من العلاقات العربية والدولية، فضلاً عن قدراته المالية. نجح الحريري في أنْ يصبحَ المحور الذي يدور النظام حوله على رغم الإدارة السورية للبنان. وصار البحث عن رئيس الجمهورية يتمُّ على قاعدة من يستطيع ضبط الحريري وعرقلته بعدما تكشفت صعوبة الاستغناء عنه. وعلى رغم الفوارق، فإنَّ التجربة تكررت مع سعد الحريري الذي أطلَّ فجأة على اللبنانيين حاملاً في بيروت نعش والده الذي شكل اغتياله في 2005 منعطفاً في حياة الجمهورية المضطربة ووضعها على طريق الانحدار.
كانت «عقدة الحريري» حاضرة في الانتخابات وتشكيل الحكومات. لا بدَّ منه ولا خيار لمعارضيه غير القبول به والسعي إلى عرقلته ونصب الأكمنة لإسقاطه عند أول فرصة. أسقطت حكومة الحريري على يد تيار عون وحلفائه، لكنَّه أطلَّ مجدداً من السراي الحكومي لأنَّه الأقوى في طائفته ولأنَّه احتفظ بمعظم ترسانة العلاقات الدولية التي هندسها والدُه وبرع في صيانتها. وحين تطالب طائفة الحريري اليوم به ممثلاً لها في نادي الرؤساء فإنَّها تطالب عملياً بالقاعدة التي فرضها عون وحلفاؤه حين أخروا انتخابات رئاسة الجمهورية ثلاثين شهراً لضمان وصوله بصفته الأوسع تمثيلاً في الطائفة المارونية وبعدما عانت البلاد على مدى سنوات مما عُرف بـ«عقدة عون». أما العقدة الثالثة في النظام الحالي فهي «عقدة نصر الله»، في إشارة إلى الأمين العام لـ«حزب الله» الذي تعجز الدولة الحالية عن قطع خيط في موضوع رئيسي من دون موافقته.
كرَّستِ السنوات الماضية عرفاً خطراً هو أنَّه لا يمكن تجاوز الرجل الأقوى في جزيرته الطائفية أو المذهبية. وأدَّى هذا التكريس إلى تعديل فعلي في النظام اللبناني، وإن لم يترجمْ في نصوصه الدستورية.
ثمة من يطالب بعودة الحريري لأنَّه الرجل الأقدر على مخاطبة الخارج العربي والدولي علَّه يساعد السفينة اللبنانية المثقوبة. وثمة من يطالب بعودته ليكون شريكاً في تحمل أوزار غرق السفينة التي تتراجع الآمال في فرص نجاتها. كانت رقصة التحالفات والكيديات بين الجزر اللبنانية تدور في بلد نجح طويلاً في تأجيل ساعة الحقيقة. لكنَّها تدور اليوم في بلد يشهد أوسع حركة احتجاج في تاريخه وعلى وقع تصاعد الفقر والبطالة وإفلاس المؤسسات وتسريح العمال. بالغ السياسيون في لعبة التحالفات والكيديات ولم يتوقفوا عند مؤشرات التدهور الداخلية ولا عند خط التوتر الأميركي - الإيراني الذي يمر في بيروت كما في بغداد. أسرفوا في التشاطر والمناورة بين العقد الثلاث، في حين كانت مؤسسات الدولة تتآكل بفعل الفساد ومنطق الجزر.
لبنان قصة صعبة تفوق أحجام رجاله. كذبة رحبانية رائعة، وصارخة يبدو فيها صوت فيروز الغامر نجمة معلقة فوق خراب هائل. لا الدولة دولة ولا الدستور دستور. بحارة قساة وسفن جانحة. لا بغداد تعلمت من بيروت، ولا بيروت تعلمت من بغداد.

 

arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مبارزة على سطح سفينة تغرق مبارزة على سطح سفينة تغرق



إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:02 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء
 العرب اليوم - أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء

GMT 02:02 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أردوغان يؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة عن حل الصراعات في العالم
 العرب اليوم - أردوغان يؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة عن حل الصراعات في العالم

GMT 05:45 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F
 العرب اليوم - علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F

GMT 12:03 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشف عن تفاصيل مسلسلها الجديد رمضان 2025
 العرب اليوم - روجينا تكشف عن تفاصيل مسلسلها الجديد رمضان 2025

GMT 01:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

العنف فى المدارس !

GMT 05:45 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F

GMT 12:31 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

3 خطوات سهلة لتخفيف التوتر وزيادة السعادة في 10 دقائق فقط

GMT 02:07 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

العُلا... لقطة من القرن الثامن

GMT 08:22 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل جندي إسرائيلي من لواء كفير برصاص قناص شمال قطاع غزة

GMT 07:19 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال بقوة 4.7 درجات يضرب أفغانستان في ساعة مبكرة من اليوم

GMT 13:00 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مستوطنون يحتلون مسجداً ويبثون منه أغنيات عبرية

GMT 06:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يحذّر من حقبة "تغيير سياسي كبير" بعد فوز ترامب

GMT 13:36 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

"تسلا" تستدعي 2400 شاحنة من "Cybertruck" بسبب مشاكل تقنية

GMT 22:39 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سقوط قنبلتين ضوئيتين في ساحة منزل نتنياهو

GMT 16:54 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد فهمي ضيف شرف سينما 2024 بـ 3 أفلام

GMT 14:15 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد أمين يعود بالكوميديا في رمضان 2025

GMT 14:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

هند صبري تكشف سر نجاحها بعيداً عن منافسة النجوم

GMT 07:39 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

غارات إسرائيلية تقتل 20 فلسطينياً في وسط وجنوب قطاع غزة

GMT 18:37 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت التعليق على الطعام غير الجيد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab