الإقامة في الفخ الأوكراني

الإقامة في الفخ الأوكراني

الإقامة في الفخ الأوكراني

 العرب اليوم -

الإقامة في الفخ الأوكراني

بقلم:غسان شربل

أوصانا أساتذتنا في المهنة بتفادي الحماسة المفرطة. وبالاحتفاظ بالمسافة الضرورية لقراءة الأحداث وأدوار نجومها. حذَّرونا من الوقوع في سحر السحرة. وكانوا على حق. لكنّ الصحافي وكأي إنسان لا يستطيع اعتقالَ مشاعره في ثلاجة والتحصن تماماً ضد قدر من الإعجاب وشيء من الانحياز. والحقيقة هي أنَّني أعجبت بفلاديمير بوتين ورحت ألاحق أخبارَه، وأسأل عنه منذ جلوسه على عرش بطرس الأكبر عشية القرن الحالي.
ضاعف من اهتمامي ما سمعته من عدد من الشيوعيين العرب من أنَّ روسيا لن تغفر للغرب ابتهاجَه بتفكيك الاتحاد السوفياتي وإذلالها، وأنَّها ستستجمع قواها للنهوض مجدداً ضد عالم القطب الواحد. أصغيت إلى كلام «أيتام الاتحاد السوفياتي» لكنَّني اعتبرته أقربَ إلى التمنيات. أثار وقوع الكرملين بين يدي بوتين حيرة كثيرين. لا يملك الرجل تاريخاً حزبياً أو عسكرياً يمنحه الأفضلية في تسلم الأختام. كان واحداً من ضباط إمبراطورية الـ«كي جي بي» الذين يتقنون مكافحة الجواسيس أو تجنيدهم، فضلاً عن تدبيج التقارير بالحبر السري. سمعت لاحقاً أنَّ المبرر الكبير لوصول الرجل هو أن تكون الغرفة العميقة في المؤسسة العسكرية والأمنية حمّلته مشروع ثأر من الكارثة التي شكلها الانهيار السوفياتي. استوقفتني كلمة الثأر، خصوصاً أنني كنت سمعت في موسكو يلتسين أنَّ الرجل الأقوى في روسيا هو السفير الأميركي، وشاهدت في شارع أربات أكواماً من بزات ضباط «الجيش الأحمر» تُباع الواحدة منها مع أوسمتها بحفنة من الدولارات.
لم يخطر ببال القادة الغربيين أنَّ الرجل صاحب الابتسامة المقتضبة والعينين الباردتين يحمل تحت ثيابه مشروع انقلاب كبير. وجدوه صالحاً للتعامل معه، لكنَّهم افتقروا إلى المعرفة الدقيقة بالغليان الذي يموج في أعماق الروح الروسية. استخفّوا ببلاده. روَّجوا لـ«الثورات الملونة»، وفتحوا أبواب حلف «الناتو» أمام الدول التي سارعت إلى الفرار من البيت السوفياتي فور تصدعه. وشاهد بوتين مجروحاً الطائرات الغربية تذل الأسلحة السوفياتية في العراق وليبيا.
استوقفتني في مسيرة بوتين محطات بارزة. أنقذ الاتحاد الروسي نفسَه من رياح التفكك وأنقذ العالم معه من سلسلة حروب إثنية وقومية كان يمكن أن تدميَه. نجاحه في ترميم موقع بلاده، واستعادة شبه جزيرة القرم بالحد الأدنى من الأضرار. نجاحه في توفير شروط تدخله العسكري في سوريا، وتصويره التدخل بمثابة مهمة لإنقاذ سوريا من التحول مفاعلاً يطلق إشعاعات الظلام على المنطقة.
كان أساتذة المهنة على حق. فحين تقدَّمت ألوية الجيش الروسي في الخريطة الأوكرانية توقعت أن تكون الضربة قاصمة. استبعدت أن يكون الرجل الوافد من عالم التقارير والمعلومات مفتقراً إلى معلومات موثوقة. وقعت فيما وقع فيه كثيرون. لا يعقل أن يكون رجل الحسابات الدقيقة ارتكب خطأً هائلاً. لا يمكن أن يكون أساء تقدير قوة خصمه، وأساء تقدير قوة قواته.
قرأنا بمناسبة إطفاء الحرب الروسية في أوكرانيا شمعتَها الأولى سيلاً من التقارير والتحقيقات في صحف كبرى. استند بعضها إلى وثائق وتسجيلات لأحاديث الجنود الروس المنخرطين في المعركة.
قالت تقارير كثيرة إنَّ الغزو الروسي استند إلى أوهام كثيرة؛ بينها أنَّ أوكرانيا مجرد دولة هشة يسهل دفعها إلى انهيار كامل. وأنَّ مصير الممثل الرئيس فيها محسوم: يُقتل أو يفرّ أو يُقدّم استقالته ويبتعد. وأنَّ الجيش الأوكراني سيتفكك تحت هول الصدمة الأولى. وأنَّ الشعب الأوكراني سيفضل رفع الراية البيضاء على رؤية مدنه وقراه تتشح بالأسود تحت عاصفة الحديد والنار. قالت تقارير أخرى إن بعض الضباط اصطحبوا معهم بزة الاحتفالات مع أوسمتها لارتدائها في عرض النصر بعد أيام في شوارع كييف.
استقبلت التقارير عن ارتباك أداء الجيش الروسي بقدر من التشكيك. لكن زعيم «فاغنر» أكد بعضها من دون أن يقصد. أطلَّ بالصوت والصورة يؤنّب جنرالات الجيش ووزارة الدفاع ويحملهم مسؤولية تكاثر جثث المقاتلين حوله. الأمر غريب. أنفق بوتين مئات المليارات من الدولارات على إعادة بناء الجيش وترميم روحه وتحديث ترسانته. ثم إنَّ الدوائر الغربية بارعة حين تريد تضخيم خطر أو تشويه صورة. وجدت صعوبة في تصديق أن يكون رجل المعلومات استند إلى هذا الكم الهائل من المعلومات المغلوطة والتقديرات المفخخة. وذُكر أيضاً أنَّ محيطين بصاحب القرار توقّعوا أن تشل الصاعقة المعسكر الغربي فيسارع إلى قبول تجرع كأس السم على رغم مرارتها. حدث العكس تماماً. استيقظ الغرب وأيقظ أنيابه الأطلسية وراح يضخ الأسلحة والمليارات في عروق أوكرانيا. وفاجأ زيلينسكي العالم. ممثل ساخر بلا تاريخ ارتدى ثوبَ المحارب ووظَّف معرفته بالإعلام الجديد لتنبيه العالم وتحريضه. وأميركا التي كانت تنوي التفرغ لـ«الخطر الصيني» اختارت الذهاب بعيداً في منع بوتين من الانتصار فاتكأت أوروبا مجدداً على الوسادة الأميركية.
أطفأت الحرب الروسية في أوكرانيا شمعتها الأولى. جثث تحفر في التراب الأوكراني وتنام. وجثث تعود في النعوش للنوم في التراب الروسي. مقتلة شاسعة هزَّت أمن العالم واقتصاده. الخبز أكثر صعوبة في بلدان قريبة وبعيدة. أسعار الطاقة وأسعار الحبوب وأسعار الدم. أصعب ما في الحريق الأوكراني صعوبة الخروج منه. لا يستطيع بوتين العودة مهزوماً من أوكرانيا التي بلغ حد إنكار وجودها. روسيا لا يحكمها إلا رجل قوي. لا يستطيع رؤية روسيا مجدداً مستضعفة ومكسورة. ماذا يقول لصديقه التاريخ؟ بماذا سيدافع عن نفسه أمام ستالين؟ كيف سيمثُل بين يدي بطرس الأكبر؟
وقع السيد الرئيس في الفخ وأوقع العالم معه. لا يستطيع العالم احتمالَ سنة ثانية من هذه الطاحونة الدموية الهائلة. سيشتد سباق التسلح. ستتضاعف الأسعار. سيتزايد عدد الفقراء. ستشتد أمواجُ عدم الاستقرار. سيجد الطب الصيني صعوبة في إنقاذ روسيا وأوكرانيا معاً. روسيا لا تستطيع الإقرار بالهزيمة. والغرب لا يستطيع التوقيعَ على خريطة أوكرانية أقل. والإقامة الطويلة في الفخ الأوكراني باهظة لروسيا وأوكرانيا والعالم. مع ذلك لا بد من إنقاذ السيد الرئيس الذي أطلق «العملية العسكرية الخاصة»، فإنقاذ العالم مشروط بإنقاذه لتفادي إقامة طويلة مدمّرة في الفخ الأوكراني.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإقامة في الفخ الأوكراني الإقامة في الفخ الأوكراني



نانسي عجرم تتألق بالأسود اللامع من جديد

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 12:43 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

السودان .. وغزة!

GMT 11:36 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

عودة النّزاع على سلاح “الحزب”!

GMT 11:38 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

ماذا تفعل لو كنت جوزف عون؟

GMT 15:55 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

زلزال عنيف يضرب إسطنبول بقوه 6.2 درجة

GMT 02:27 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

توقعات الأبراج اليوم الأربعاء 23 إبريل / نيسان 2025

GMT 11:52 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

ثمة ما يتحرّك في العراق..

GMT 15:56 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

زلزال بقوة 4.3 درجة يضرب ولاية جوجارات الهندية

GMT 15:51 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

وفاة الإعلامى السورى صبحى عطرى

GMT 15:48 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

"بتكوين" تقفز لأعلى مستوى فى 7 أسابيع

GMT 03:26 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

غارات أميركية تستهدف صنعاء وصعدة

GMT 03:29 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

توقعات الأبراج اليوم الخميس 24 إبريل / نيسان 2025

GMT 03:24 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

قتلى وجرحى في انفجار لغم أرضي شرقي حلب

GMT 01:13 2025 الثلاثاء ,22 إبريل / نيسان

جليد القطب الشمالي يسجل أصغر مساحة منذ 46 عاماً

GMT 03:46 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

ارتفاع حصيلة قتلى القصف الإسرائيلي لـ23 شخصًا

GMT 12:58 2025 الأربعاء ,23 إبريل / نيسان

اعترافات ومراجعات (103) رحيل الحبر الأعظم
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab