عذابات عربي في الانتخابات البريطانية

عذابات عربي في الانتخابات البريطانية

عذابات عربي في الانتخابات البريطانية

 العرب اليوم -

عذابات عربي في الانتخابات البريطانية

غسان شربل
بقلم: غسان شربل

استيقظَ باكراً. هذا يوم استثنائي في حياته. سيقترع في الانتخابات البريطانية. سمع رفاقَه في العمل يقولون إنَّ ممارسة حق الانتخاب واجب لا يجوز التنازل عنه، وإنه فرصة للمشاركة وممارسة الرقابة والتصحيح، وإن الإنجازات ليست ممراً لإقامة مفتوحة، وإن تشرشل الكبير عاقبته صناديق الاقتراع، وإن مارغريت ثاتشر التي كسرت غرور الجنرالات الأرجنتينيين، وأعادت العلم البريطاني إلى فوكلاند، انحنت هي الأخرى أمام مشيئة صندوق اقتراع. الديمقراطية لا ترحم. شارل ديغول المديد القامة واللامع التاريخ خذله الفرنسيون في استفتاء، فانكفأ إلى التقاعد في قريته.
قرأ في الصحف أنها انتخابات «حاسمة». وهي كذلك بالنسبة لعلاقة بريطانيا بأوروبا، وربما بالنسبة إلى وحدة المملكة المتحدة نفسها. وأنه إذا كان من حق بريطانيا أن تقفز من القطار الأوروبي، فلماذا لا يحق للاسكوتلنديين القفز من القطار البريطاني. انتخابات حاسمة، لكنه لم يشم في شوارع لندن رائحة حرب أهلية مقتربة، رغم عمق الانقسام. يبتسم. هذه شعوب قاتلت وتعلمت واستنتجت. طردت صحن الحرب الأهلية من وجباتها. الحرب الأهلية اختصاصنا.
تذكّر المشاعر المتضاربة التي اجتاحته حين مُنح الجنسية البريطانية. هبَّت عليه رياح الثقافة الريفية القديمة. هل يخون المرء وطنه حين يحتمي بجواز أجنبي كي يحرم سفارة بلاده الأصلية من متعة إذلاله ومعاقبته على أفكاره أو مواقفه أو حياده؟ وهل يعني الجواز الجديد قطع تلك الشرايين التي تربطه بالتراب والأغاني والنشيد الوطني؟ وهل صحيح ما يقوله رفاقه الجدد من أن عظام أجدادك ليست أهم من مستقبل أحفادك؟
يحبُّ بلاده، لكنَّه كان فيها صفراً وخائفاً وممتهناً. كان عليه دائماً أن يخشى، وأن يتملق، وأن يخفي رأيه ومشاعره. كان عليه أن يشيد بالمطرب المعتمد رسمياً، وأن ينوِّهَ بالعناوين المتشابهة للصحف التي تصدر استناداً إلى «الحرية المسؤولة». كان يخاف من مندوب الحزب في الحي لأنَّه مندوب المخابرات أيضاً. تقرير صغير منه يدفعك إلى بوابات الجحيم. ومن يدري قد يصادرون بعض أسنانك وأظافرك، وقد يرغمونك لقاء وقف التعذيب على الاعتراف بمؤامرة لم تضطلع فيها ولم تسمع عنها؟
يبتسم. في بريطانيا يمكنك ألا تعرف اسم مدير المخابرات. ويستحيل أن يسمى هنا «الرجل القوي» أو «صانع الرؤساء» أو «طباخ الانتخابات». يعرف قصة الانتخابات في بلاده، وهي مجرد استفتاءات. كانت الشرطة ترابط على مدخل مركز الاقتراع، ورجال المخابرات يطالعون الوافد بنظرات حادة لتذكيره بأن الخطأ مكلف. ولم تكن الانتخابات غامضة أو مثيرة. كان مدير المخابرات يحدد نتائجها سلفاً، بالاتفاق مع وزير الداخلية. كان يحدد أيضاً نسبة المشاركة والأوراق البيضاء لتضليل الرأي العام الغربي.
يوم استثنائي في حياته. ويوم استثنائي في حياة بريطانيا، لكنه يوم عمل عادي. ارتدى بزَّة تليق بالمناسبة، وربطة عنق جديدة، وذهب. وجد صعوبة في التعرف على مركز الاقتراع. لم يلمح لافتات تتحدث عن «الزعيم الأوحد». لم يلمح شرطياً ولا مراقبين أمنيين. دخل القاعة، فوجدها هادئة تذكّر بالمكتبات العامة. صف من المنتظرين، جاء بعضهم بملابس رياضة المشي.
حين جاء دوره، سألته الموظفة عن عنوان منزله، وحين وجدته على اللائحة، ردَّدت اسمه، فأكد. لم تطلب منه أوراقاً ثبوتية. أعطته ورقة عليها أسماء المرشحين والأحزاب التي ينتمون إليها، وطلبت منه الذهاب إلى ركن، ووضع شارة قرب الاسم الذي يختاره. نفذ التعليمات، وأسقط الورقة في الصندوق. مرَّ بباله أنَّ لصوته قيمة توازي صوت بوريس جونسون أو جيريمي كوربين. لم تكن لصوته في بلاده أي قيمة.
غادر المكان، وراح يفكر. ذهب العراقيون مرات عدة إلى صناديق الاقتراع بعد إطاحة صدام حسين، لكن ذلك لم ينجب الاستقرار، ولم يفتح باب الازدهار. غلبه الخبث. تبخرت مئات مليارات الدولارات. وحين خرج الناس احتجاجاً، وافتهم «فرق الموت» إلى الساحات. حقائق مؤلمة. بعض الذين رقصوا ابتهاجاً حول جثة صدام أظهروا في ممارساتهم أنهم صَدَّاميون من الوريد إلى الوريد. بعض الذين احتفلوا بجثة العقيد أظهروا لاحقاً في أدائهم أنهم قذافيون وأكثر. لا يحنُّ أبداً إلى زمن «القائد الملهم»، سواء أكان صدام أم القذافي. كوارث عهديهما ماثلة للعيان. لكن ما حجم الخسائر البشرية والاقتصادية التي مُني بها العراق في مرحلة ما بعد صدام؟ ولماذا تدفقت أنهار الدم ميليشياتٍ ميليشياتٍ بعد غياب قائد «ثورة الفاتح»؟ المؤسسات المؤسسات المؤسسات. قال الجملة وكرَّرها. هنا، تعمل المؤسسات بغض النظر عن هوية المقيم في 10 داونينغ ستريت. لا تذهب مع الحاكم لأنَّها ليست له، بل للناس.
فكَّر أيضاً في لبنان. دولة بكّرت في اعتناق الديمقراطية، لكنها ترنحت بفعل التقاء سموم الداخل بسموم الخارج. دولة انتظرت «منقذها»، فاكتفى بالسير في جنازتها. يذهب اللبنانيون إلى الانتخابات، ثم يمضون شهوراً بحثاً عن حكومة يجد الفاسدون دائماً مقاعد مريحة فيها. يعامل السياسيون الدولة كأنهم يتقاسمون جثة بقرة ذهبية. شهوات وكيديات وصغارات. دفعوا الدولة إلى الإفلاس على كل المستويات. دمروا اقتصادها، واغتالوا دورها، ووزعوا على المواطنين أرغفة الخوف والجوع والقلق، مرفقة بعبوات الغاز المسيل للدموع. موسم الانحدار والانحطاط.
تزامنت الانتخابات البريطانية مع الانتخابات الرئاسية في الجزائر. حاول عبد العزيز بوتفليقة التعلق بالقصر، بانتظار موعده مع القبر، لكنه لم يوفق. أنقذ تماسك الجيش الجزائر من مصير ليبي. نزل الشباب إلى الشوارع بسلمية لافتة. لا يكفيهم نشر غسيل «العصابة». ضاعت ثروة البلاد بين المقربين الدهاة والجنرالات القساة. انتخبت الجزائر رئيساً تحت رقابة الجيش. ليته يفتح النافذة لتفادي الانهيارات والانفجارات.
أعلنت نتائج الانتخابات البريطانية ليلاً. «بريكست» حقيقة لا يمكن تفاديها. ستقفز بريطانيا من القطار الأوروبي، واسكوتلندا تتحسَّس أحلامها. احتفل جونسون. وأقر كوربين بالهزيمة. فَركَ العربي عينيه. ذهب ونام، وأسرفَ في الأحلام.

 

arabstoday

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:28 2024 الخميس ,13 حزيران / يونيو

مكاشفات غزة بين معسكرين

GMT 00:37 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

التطبيع بعد القمة!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عذابات عربي في الانتخابات البريطانية عذابات عربي في الانتخابات البريطانية



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أشرف حكيمي يمدد عقده مع باريس سان جيرمان حتي عام 2029

GMT 18:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 09:37 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ثوران بركاني جديد في أيسلندا يهدد منتجع بلو لاجون الشهير

GMT 22:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 11:06 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مستشفى كمال عدوان بدون أكسجين أو ماء إثر قصف إسرائيلي مدمر

GMT 10:21 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إسرائيل اعتقلت 770 طفلاً فلسطينيًا في الضفة منذ 7 أكتوبر

GMT 12:02 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

قصف إسرائيلي يقتل 8 فلسطينيين في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة

GMT 08:39 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أجمل السراويل الرائجة هذا الموسم مع الحجاب

GMT 16:52 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية

GMT 17:12 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 07:01 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab