خرائط وحرائق

خرائط... وحرائق

خرائط... وحرائق

 العرب اليوم -

خرائط وحرائق

بقلم - غسان شربل

في الغابة كانت السيدة تشرحُ لابنها الذي راودته رغبة في التسلل. علينا احترام الإرشادات. هذه الشجرة جزءٌ من ثروتنا الوطنية. إنَّها ملكُ الأجيال المقبلة أيضاً. لا يحقُّ لأحد أن يتسبب في إتلافها. قتل الأشجار جريمة يعاقب عليها القانون. تنفق الدولة أموالاً ضخمة لحماية الغابات والحدائق وحفظ التوازن البيئي. قالت له إنَّ تطويق شجرة الأَرز الضخمة بالحبال يهدف إلى تذكير الزوار بعدم الوصول إليها. قرأت له العبارة المكتوبة على كرتونة بيضاء لافتة: «أنا مسنة ومتعبة جداً. الرجاء عدم تسلق أغصاني أو الجلوس تحتها». إنَّها رسالة دُبّجت باسم الشجرة نفسها لإقناع صغار الزوار بعدم تعريضها للإيذاء وعدم تعريضهم أيضاً. دققت في هيكل الشجرة المتكئة على سنوات كثيرة فوجدت غصناً ضخماً مكسوراً بطريقة قاسية. واضح أنَّ العاصفة هاجمت الشجرة واغتالت أحدَ غصونِها. وحرصاً على الشجرة والزائرين حاكت الجهة المسؤولة هذه الرسالة الراقية.
استوقفني الموضوع وسلوك المسؤولين عن هذه الحديقة العامة المترامية الأطراف. ففي زمن يلتهم فيه «كورونا» مواطنين وميزانيات، لا تتردّد الجهة المحلية المسؤولة في بذل قصارى جهدها لإنقاذ شجرة قديمة وزوارها. ولأنَّني وافد من الشرق الأوسط الرهيب كان طبيعياً أن أسقط في المقارنات. والحقيقة هي أنَّني لم أطالب لشجرة في لبنان أو سوريا أو العراق أو غيرها بمعاملة مشابهة لتلك التي تحظى بها الشجرة البريطانية. ولو فعلت ذلك لاستهجن القوم وسخروا، وقالوا إن الإقامة في لندن أفسدتني وقطعت صلتي بجذوري. وللإنصاف أنا أطالب أو أحلم بأن يعامل المواطن في بلداننا الشائكة بقدر من المرونة يشبه التعامل مع الشجرة البريطانية أو يقترب منه. ومعلوماتي أنَّ المواطن لا يعامل على هذا النحو، لا في السجون الموزَّعة داخل الخرائط، ولا في الخرائط التي تحولت إلى سجون هائلة.
ذكَّرتني الحادثة بالصدمة التي يتعرَّض لها وافدٌ مثلي من الشرق الأوسط حين يكتشف أنَّه ليس طليق اليد في تنفيذ حكم الإعدام بأشجار حديقته لمجرد أنَّها لا تعجبه. اقتلاع شجرة راسخة يستلزم الحصول على إذن من السلطة المحلية، وأن تكون لديك الأعذار المقنعة للتخلص منها كأن يشكل استمرارها نوعاً من الخطر أو الضرر أو أنَّ لديك أسباباً وجيهة لشطبها.
أكتب لأنَّ قارئاً صديقاً استهجن قبل أيام أن تكون الصورة الرئيسية في الصفحة الأولى من «الشرق الأوسط» صورة حرائق تلتهم الأحراج في سوريا. وكان قصد القارئ أنَّ الحرائق التي تلتهم الناس أعنف بكثير من الحرائق الموسمية التي تقتل الأشجار. كان قصده أنَّ حرائق الأحراج تندلع بفعل ارتفاع حرارة الطقس أو انتقال شرارة خطأ أو تعمد إلحاق الضرر، لكن الحرائق التي تشوي المواطنين تعمل على مدار الأيام والأعوام.
قال القارئ إنَّه لا يقلل أبداً من أهمية المحافظة على الغابات، لكنه يعتقد أنَّ الخريطة بكاملها تشتعل بفعل حرائق مزمنة أشد خطورة. واعتبر أنَّ مشهد لبنانيين ينتظرون حلول الظلام للاقتراب من أكوام النفايات والبحث فيها عمَّا يمكن أن يرد الجوع صار مشهداً عادياً. أنا لا أقول إنَّ إنقاذ الأشجار ليس مهماً لكنَّني أقصد أنَّ الحرائق أخطر بكثير مما يعتقد. يدخل في باب الحرائق الإعلان أنَّ أكثر من 55 في المائة من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، وأنَّ لبنانيين آخرين سينضمُّون إليهم في المرحلة المقبلة. وقال إن من بين الحرائق تعرض آخر ما يمتلكه المصرف المركزي لعملية استنزاف بفعل تهريب السلع المدعومة إلى ما وراء الحدود، وكل ذلك لا يمكن أنْ يتم من دون رعاية فاعليات فعلية. العملة الوطنية احترقت عملياً. المؤسسات احترقت معها. الكرامة الوطنية تفحمت بفعل مناورات السياسيين. المقيمون داخل الخريطة رهائن تحيط بهم أشجار محترقة ونفوس متخشبة ودولة متآكلة وقراصنة أصحاب تاريخ في إحراق السفن بعد نهبها. يدخل في باب الحرائق أيضاً إبقاء البلد الجائع معلقاً بلا حكومة، بانتظار نتائج الانتخابات الأميركية والتعليمات الإيرانية والعقاقير الدولية.
واعتبر القارئ العاتب أنَّ حرائق تندلع في كثير من بلدان العالم. حتى أميركا وكندا وأستراليا تجد أحياناً صعوبة في احتواء أمواج الحرائق. نحن تذكرنا الحرائق بالحريق الأهم وهو فشلنا في بناء دولة ومؤسسات. نتباخل على أجهزة الإطفاء والدفاع المدني ونبدّد الأموال على المواكب والفاسدين، ومن دون أن نقيم أي اعتبار لحياة البشر أو حياة الأشجار. بلا دولة تستحق التسمية يستحيل إنقاذ البشر والأشجار والأحجار. الخوف هو أنَّنا نسافر في الاتجاه المعاكس. نرشُّ على الموت كلاماً قديماً. نغطي الجروح بالعسل الفاسد فتزداد التهاباً. نهرب من استحقاقات الدولة والعصر إلى كلام قديم يعطّل الحوار والعقل والنقاش، ويجعل المستقبل مجرد امتداد للماضي من دون الاعتراف بأنَّ مراكبَ الماضي احترقت مع قواميسه.
اعترف السيد القارئ بأنَّ الحرائق في سوريا ضخمة ومقلقة وتثير الغضب وربما التساؤلات. لكنَّه لاحظ أنَّ الحريق الفعلي هو أنَّ سوريا التي قاومت التغيير ثم قاومت الإرهابيين لم تبدأ بعد رحلة العودة إلى دولة طبيعية تجيد الإفادة من التجارب المدمرة والدروس الصارخة. مئات آلاف القتلى وجيش من السجناء والمفقودين. تدهور مريع للعملة الوطنية وجروح عميقة في جسد الوحدة الوطنية. ملايين المواطنين يقيمون تحت خط الفقر وملايين غيرهم ينتشرون في الدول المتاخمة. هذا حريق ما بعده حريق. فقر وانسداد ووصايات ومظلات وآلة قديمة في منطقة صاخبة تتغير. واعتبر أنَّ تغطية الجروح بالعبارات الحزبية القديمة أفضل وصفة لترشيح البلد للحرائق لاحقاً.
مؤلم تماماً ما يقوله اللبناني. والسوري. والعراقي. واليمني. والليبي. حريق الأشجار مؤلم، لكن بلداننا خرائط تحترق بسكانها وأشجارها وتحرق مستقبل أطفالها. متى نستيقظ على حكومات تحترم المواطن وتحترم الشجرة وتحترم العقول وتحترم الأرقام؟ متى نخرج من زمن العرَّافين والمنجمين وتجار الكلام وباعة الأوهام؟ متى نحترم التقدم والجامعات والأبحاث والشفافية والنزاهة وأعمار أطفالنا وأطفالهم؟ تعبنا من حريق الأشجار وحريق الأعمار. تعبنا من الذين يحمّلون الخرائط ما لا تستطيع احتماله. ومن الذين يستخدمون القوة لفرض الزي الموحد على مجتمعات متعددة. تعبنا من تزوير الأولويات وتبرير الجوع والتدهور الاقتصادي والاستعانة بالتوابيت لقهر أحلام التغيير.

   
arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خرائط وحرائق خرائط وحرائق



فساتين سهرة رائعة تألقت بها ريا أبي راشد في عام 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 12:44 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

كنوز السياحة في الاردن تروي تاريخ حضارات قديمة
 العرب اليوم - كنوز السياحة في الاردن تروي تاريخ حضارات قديمة

GMT 10:33 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

تامر حسني يتألق بحفله الأخير في موسم الرياض
 العرب اليوم - تامر حسني يتألق بحفله الأخير في موسم الرياض

GMT 02:31 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

زلزال قوي يضرب جزر الكوريل الروسية ولا أنباء عن خسائر

GMT 08:54 2024 الجمعة ,27 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... الوجه الآخر للقمر

GMT 05:53 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

وفاة أكبر معمرة في إيطاليا عمرها 114 عاما

GMT 08:49 2024 الجمعة ,27 كانون الأول / ديسمبر

جنوب لبنان... اتفاق غير آمن

GMT 05:50 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

محكمة روسية تصادر ممتلكات شركة لتجارة الحبوب

GMT 07:55 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

قصف إسرائيلي يودي بحياة 9 فلسطينيين بينهم 3 أطفال في غزة

GMT 05:29 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار جسر في البرازيل لـ10 قتلى

GMT 12:22 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

مدير منظمة الصحة العالمية ينجو من استهداف مطار صنعاء

GMT 02:29 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

زلزال بقوة 5.7 درجة يضرب الفلبين
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab