لبنان على ضفاف نهر الاغتيالات

لبنان... على ضفاف نهر الاغتيالات

لبنان... على ضفاف نهر الاغتيالات

 العرب اليوم -

لبنان على ضفاف نهر الاغتيالات

بقلم : غسان شربل

يصابُ الصحافي أو الكاتبُ أحياناً بتشوُّهٍ مهني جراء استيلاء موضوع ما على ذاكرته. وشاءت الصدفة أن يكونَ موضوع الاغتيالات من نصيبي. وقد يكون السَّبب أنَّني كنت في دائرة الخطر في واحد منها ثم إنَّ لاعباً آخر اغتيل خلال حديثنا على الهاتف. يضاف إلى ذلك أنَّ الاغتيالات في لبنان كانت كابوساً يتظاهر بالتوبة والابتعاد ثم يهبّ مجدداً لشطب رجل يحمل مشروعاً أو رجل يشكل عقبة أمام مشروع. وزاد اهتمامي بالاغتيالات حين زرت مناجمَها العراقيةَ والليبية ومن دون أن ننسى السّورية.

في منتصف مارس (آذار) 1977، وكنت في بداية عملي في «النهار» اللبنانية، ذهبت لزيارة عائلةِ أحد أخوالي في قرية مزرعة الشوف المقابلة لقرية المختارة معقل زعامة آل جنبلاط. ظهر اليوم التالي سمعت جار خالي وصديقه سليمان أبو كروم يصرخ بإلحاح: «دخيلكم تعو لعنا»، وراح يكرّرها. تردَّدت في البداية لكنَّني انضممت إلى أقاربي. كنت أهمُّ بدخول منزل أبو كروم حين قال بصوت مرتجف: «قتلوا كمال جنبلاط». وكانَ ذلك أكبرَ زلزال يمكن أن يضربَ هذا الجزء من لبنان.

أسدل أبو كروم ستائرَ منزله وطلب من أبنائه وأبناء أشقائه تولي حراسة المنزل بأسلحتهم والتصدي بالنار لأي محاولة ترمي إلى استهدافنا. بعد ساعات لاحظت أنَّ ملامح أبو كروم الذي يحاول أن يطمئننا تشي بأنَّ شيئاً رهيباً يحدث. ولم نعرف في تلك الساعات أنَّ القتل استهدف كلَّ من لم يبادر جاره الدرزي إلى حمايته. في تلك الليلة قتل كما قيل لاحقاً 53 شخصاً بينهم خالي الآخر وستةٌ من أفراد عائلته ولم يكن منزلُه يبعد أكثرَ من مائة متر عن المكان الذي نقيم فيه. وبعد يومين أخرجنا بمواكبة إلى قصر المختارة ومنه إلى منازلنا.

بعد سنوات روَى لي وليد جنبلاط كيف طافَ ليلاً تلك القرى لكبح الأعمال الانتقامية، مؤكداً لأنصار والدِه المجروحين أن لا علاقة لجيرانِهم المسيحيين باغتيال والده الذي نفذته أجهزةُ المخابرات السورية. وبعد ما يزيد على ثلاثة عقود وبعد غداء مع جنبلاط في المختارة عرَّجت على بلدة مزرعة الشوف. سألت عن منزل أبو كروم لأشكرَه على نبل موقفه فوجدت شيخاً جليلاً يقترب من التسعينيات يعمل في حديقة منزلِه. عانقني مغالباً دموعَه. هذه هي بلادنا. رجلٌ يقتل جاره لأنَّه لا يشبهه. ورجل يحمي جاره الذي لا يشبهه. وقرَّرت أنَّ أكثرية اللبنانيين تشبه الرجل الثاني.

درسٌ آخر في قسوة الاغتيالات. في أواخر الأسبوع الأول من مارس (آذار) 1980 استدعاني أستاذنا مدير تحرير «النهار» فرنسوا عقل. قال لي إنَّه يقال إنَّ جثة الصحافي الشهير سليم اللوزي، صاحب مجلة «الحوادث»، موجودة في براد مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت وعلينا التأكد أنَّها جثته. ذهبت إلى المكان فطلب الضابط مني الابتعاد بحجة أنَّ ذلك ممنوع. وبوقاحةِ الصحافي الشاب رحت أجادله مذكراً بحقنا في رؤية جثة زميلنا. وفجأة تجاوب وأمر بفتح جارورٍ وإذ بجثة اللوزي وعلى أصابعه آثارُ تعذيب رهيب عقاباً لها على جرأة ما كتبته. وبعد سنوات طويلة شاءت المهنة أن أحاورَ من يُعتقد أنَّه قاتله وليسامحني الله. إنَّها المهنة.

في 14 سبتمبر (أيلول) 1982 كنت في مكتبي في «النهار» حين دوَّى انفجارٌ في منطقة الأشرفية. انفجرت عبوةٌ ناسفة واغتالت رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميل ومشروعه. وقبل سنوات زرت الرئيسَ السابق أمين الجميل فوجدته مقيماً مع جروح كثيرة أبرزها جرح اغتيالِ نجله النائب والوزير بيار وجرح اغتيال شقيقِه بشير علاوة على جروح أخرى.

وفي 14 فبراير (شباط) 2005 كنتُ في مكتب مسؤولٍ سوري أحاوره عن تطورات الغزو الأميركي للعراق وعن علاقة دمشق المتوترة مع رفيق الحريري. خرجت من اللقاء فوجدت سيلاً من الرسائل على هاتفي تفيد بأنَّ انفجاراً استهدف موكب الحريري الذي لم يتأخر إعلان نبأ اغتياله. وفي تلك الليلة كان عليَّ أن أكتب ومن دمشق مقالي عن الرجل الاستثنائي، وأن أرسل من هناك عنوان الصفحة الأولى في جريدة «الحياة». بعدها فاض نهرُ الاغتيالات وتوالت الجنازات. وحشية الاغتيالات ووحشة المهنة.

درس فظيعٌ في الاغتيالات. في 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2012 اتَّصل بي صديقٌ عزيز وقال إنَّه يعتقد أنَّ العقيد وسام الحسن رئيس «شعبة المعلومات» في قوى الأمن الداخلي في لبنان موجودٌ في لندن واقترح أن أدعوَه إلى غداء أو عشاء. ولم يكن من عادتي الاتصال بالحسن لأنَّه رجل أمن وكثير الانشغالات لكنَّنا كنَّا نلتقي إن مرَّ في لندن أو كنت في بيروت. اتصلت بالحسن وبدأنا المجاملات التي تفتتح بها الاتصالات وفجأة انقطع الاتصال. حاولت مجدداً ثم كرَّرت المحاولة لكن الهاتف لا يجيب. توقعت أن يعاود الاتصال. وبعد نحو عشرين دقيقة أبلغني الصديق أن انفجاراً استهدف الحسن الذي عاد سراً إلى بيروت وقتله. عثرت «شعبة المعلومات» على هاتف الحسن وعرفت رقمي بصفتي آخر المتصلين. ما أقسَى أن يغتال رجل وأنت تحدثه على الهاتف!

على مدى عقود سجلت في الصحف التي عملت فيها، وصولاً إلى «الشرق الأوسط» التي أعتزّ اليوم بالانتماء إليها، جنازات رجال حاورتهم في عواصم عدة وطالتهم يدُ الاغتيالات. أعادني البارحةَ إلى حديث الاغتيالات تشييعُ الأمينين العامين لـ«حزب الله» حسن نصر الله وهاشم صفي الدين. اغتالت إسرائيلُ الرجلين لاغتيال مشروعهما.

ما أقسى قصة لبنان! لكل لبناني دموع حارة تستوطن في ذاكرته. لكل لبناني أوجاع جنازة يورثها لأولاده. هل يمكن مصالحة الدموع التي تذرف في الجزر اللبنانية؟ هل يمكن أن يعيشَ اللبنانيون في بيت طبيعي لا تصدعه الاغتيالات الآتية من هنا أو هناك؟

ما أصعبَ أن تكون صحافياً عربياً على خط الزلازل! ما أصعبَ أن تمضي العمر على ضفاف نهر الاغتيالات!

arabstoday

GMT 11:43 2025 الإثنين ,24 شباط / فبراير

تلك هي الحكاية

GMT 11:41 2025 الإثنين ,24 شباط / فبراير

تشييع «حزب الله»

GMT 11:33 2025 الإثنين ,24 شباط / فبراير

«هدنة 1949» لتحرير لبنان من حروب الآخرين

GMT 11:27 2025 الإثنين ,24 شباط / فبراير

وسمٌ سعودي على التاريخ

GMT 11:25 2025 الإثنين ,24 شباط / فبراير

المشهد الفلسطيني قبل اليوم التالي

GMT 11:21 2025 الإثنين ,24 شباط / فبراير

واشنطن... ومستقبل الأمم المتحدة

GMT 11:20 2025 الإثنين ,24 شباط / فبراير

ورقة المهاجرين!

GMT 11:10 2025 الإثنين ,24 شباط / فبراير

بين الفلسفة والأدب

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان على ضفاف نهر الاغتيالات لبنان على ضفاف نهر الاغتيالات



أحلام تتألق بإطلالة لامعة فخمة في عيد ميلادها

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:24 2025 الأحد ,23 شباط / فبراير

نهج التأسيس... وتأسيس النهج

GMT 07:29 2025 الأحد ,23 شباط / فبراير

كم سيندم لبنان على فرصة اتفاق 17 أيّار...

GMT 05:50 2025 الأحد ,23 شباط / فبراير

حقائق غامضة

GMT 18:20 2025 السبت ,22 شباط / فبراير

إنستجرام يضيف ميزات جديدة للرسائل المباشرة

GMT 09:50 2025 السبت ,22 شباط / فبراير

أنغام تتألق في حفل تكريم عبدالله الرويشد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab