طلال سلمان
من حق اللبنانيين الذين يعيشون في قلب الفراغ السياسي الذي يشل الدولة، وإن هو لم يوقف الصفقات المشبوهة في مختلف المجالات، أن يهنّئوا أنفسهم، وأن يشكروا المقادير التي أبقت وطنهم الصغير ـــ حتى الساعة ـــ خارج البحث في أي تعديل يتناول كيانه السياسي، بحدوده القائمة والتي احتلت بعض «مقلبها» السوري تنظيمات إرهابية أخطرها حضوراً «داعش» وخصمها ـــ حليفها ـــ شريكها «جبهة النصرة».
فالنظام ولادة صفقات مشبوهة، وأركانه يتميزون بالكفاءة النادرة في إخضاع مقدّرات الدولة ومؤسساتها للمحاصصة والتقاسم، وصولاً إلى موج البحر ورمال الشاطئ والبواخر عظيمة القدرات حاملة الكانتونيرات المذهّبة.
وربما توجب على اللبنانيين أن يشكروا المقادير على أنها خصّتهم بطبقة سياسية فاسدة ومفسدة، ولكنها أعجز من أن تقرر عندما يتصل الأمر بوجود الكيانات أو تعديل خرائطها أو شطب بعضها بالدمج أو بالحذف.
ذلك أن المشرق العربي يعيش حالة انتقالية في قلب مشاريع حروب أهلية، بينما تناقش «الدول» بالقيادة الأميركية احتمالات عدة، بينها إعادة رسم خرائط جديدة لكياناته السياسية، على غرار ما جرى في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ويكاد يكون واضحاً أن تلك الاحتمالات كانت وما تزال البند الأول في جدول أعمال المؤتمرات السياسية والاجتماعات العسكرية التي باشرتها واشنطن واستدعت إليها المسؤولين السياسيين وقادة الجيوش في معظم أنحاد العالم، ثم أنابت الرياض في استضافة اللقاء العسكري الثاني الذي رعاه ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف، وحضره وزراء دفاع وقادة جيوش، لاستكمال المناقشات والاستعدادات على خرائط مفتوحة في انتظار نهاية المواجهات التي تخلخل أكثر من كيان سياسي في هذه المنطقة المزدحمة بالكيانات المهددة في صيغتها الحالية.
وإذا كان القرار بإقامة «دولة إسرائيل» على أرض فلسطين قد بدأ على شكل «وعد» أعطاه من لا يملك (وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور) لمن لا يستحق (الحركة الصهيونية) عشية انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، فإن «الفرصة» التي يتيحها ضياع الأنظمة العربية في غمرة مشاريع الحروب الأهلية المفتوحة الآن، «تستدرج» عروضاً جدية بإعادة النظر في الكيانات القائمة... خصوصاً في ظل تفجر الفتن الطائفية والمذهبية، واندفاع بعض الدول العربية إلى استدعاء نجدات عسكرية أميركية أساساً، وأوروبية، قد أعاد طرح موضوع الفيدرالية والكونفيدرالية كصيغة بديلة من الحروب الأهلية المشتعلة الآن في أكثر من بلد عربي، يعجز نظامه عن حفظ دولته.
هل هو التاريخ يعيد نفسه، أم أن عجز النظام العربي المتهالك والذي اندفع إلى التصادم مع حقوق الرعايا الذين يحكمهم، هو الذي يفتح الباب أمام مخاطر التقسيم الجديد، في ظل تهديد «داعش» باستعادة زمن «الخلافة» وبعث دولتها التي تمتد بامتداد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، مع إضافة دولة إيطاليا بعاصمتها روما، كما أعلن السفاح الناطق باسم التنظيم الإرهابي عند إعلانه عن المذبحة المنظمة التي أودت بحياة واحد وعشرين من الرعايا المصريين الذين قصدوا ليبيا سعياً وراء لقمة عيش مغمسة بعرق جباههم.
ليس للعرب قائد تاريخي أو قيادة عاقلة وحكيمة، ثم انهم مبعثرون، منقسمون على أنفسهم، داخل الدولة ذاتها، وداخل الأطر السياسية التي كانت تجمع بينهم، مثل مؤتمرات القمة، وفي الحد الأدنى الجامعة العربية بميثاقها والمعاهدات والاتفاقات العديدة التي تحمل تواقيع الملوك والرؤساء والسلاطين والشيوخ من قادتها.
لا لقاءات جديدة، ولا تعاون ولو بالحد الأدنى، وقد بات «السير بخطى أضعفهم» في مستوى الأحلام: الكل خائف من الكل، والشعب الذي كان موحّداً يعيش في دوامة حرب أهلية، بدأت سياسية بين «النظام» ومعارضيه وتدرجت عنفاً وتمزيقاً للروابط الجامعة ثم انزلقت إلى الاتون الطائفي والمذهبي بحيث بات متعذراً التلاقي في كيان سياسي موحد، وارتفعت الأصوات بطلب «الاستقلال» بحيث يكون لكل عنصر «دولته» أو «إقليمه» في دولة كونفيدرالية سيظل مصيرها مرتهناً للإرادة الأجنبية.
وحدها «إسرائيل» دولة يهود العالم، عدو العرب جميعاً، مستبيحة فلسطين بالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، رمز العنصرية ومجافاة حقوق الإنسان، القائمة على أرض ليست لها وليست بلا صاحب، الدولة التي قامت بقوة التآمر الدولي، هي وحدها التي تعيش في منطقة الزلازل ترف الصراع الديموقراطي بين السفاحين من قادتها السياسيين والعسكريين...
... ومع ذلك يتسلى «الأقطاب» من زعماء الطوائف في لبنان بالمماحكات والمنازعات التي تخرج على السياسة ومنها، ويكتفون بإحصاء أيام الفراغ في قمة السلطة والعجز عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقد بات ذلك كله مادة للتندر.
هل يمكن الاستنتاج أن العرب أعجز من أن يبنوا دولهم، وأعجز بالتالي من أن يحموا أنظمتهم بعيوبها؟
وهل نطالب «الدول» بأن تجيء إلينا لتبني لنا دولتنا أو لتحفظها... أليس ما تعيشه المنطقة من كوارث تتهدد دولها بالزوال كافياً لحفزنا على حفظ دولتنا ولو ضعيفة حتى لا يلتهمنا «داعش» أو الفراغ؟!