تكاد تنعدم «السياسة» في الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً وبين بين.
أُسْقط العداء عن العدو القومي، إسرائيل، أو أنه تساقط بالتقادم وانعدام الفعل. بل إن «العرب»، أو من كانت تجمعهم الهوية القومية، أي العروبة، انقسموا بين «مُصالِح» أو «مُهادِن» أو «راغب في الصلح وإن عجز عن إتمامه»، أو متمسك بموقفه المبدئي برفض «الصلح» لكون العدو الإسرائيلي ما زال عدواً، وهو قد أفاد من صلح المصالِحين لكي ينفرد بقتال مَن بقي في الميدان، سواء تمثل ب «حزب الله» أم بسوريا التي هادنت ولم تصالح. ومن هنا فإن الطيران الإسرائيلي لا يكاد يغيب عن الفضاء السوري داعماً ومسانداً للمعارضة الأصولية متمثلة ب «جبهة النصرة» أو حتى «داعش»، ولو بالتجاهل.
ولأن المجتمعات العربية تعيش مأزومة في ظل مسلسل لا ينتهي من الأزمات السياسية، وأخطر أسبابها احتكار السلطة والانفراد بالقرار، في غيبة «الشعب»، الذي لا يمكن أن تستحضره المؤسسات التمثيلية المركبة وفق مزاج الحاكم الفرد، فقد انعدم الحوار وانقطع التواصل بين «السلطة» وشعبها المتروك للريح.
هكذا تهاوت الأمنيات الغوالي والآمال العراض بالوحدة والحرية فضلاً عن العدالة الاجتماعية، أو الاشتراكية، وانحصر هم «الرعية» التي كانت ذات يوم شعباً له نصابه السياسي ممثلاً في أحزاب وهيئات ومنظمات سياسية، في تأمين رغيف الخبز والسلامة التي لا تتوفر إلا بالابتعاد عن العمل السياسي، سواء تمثل بأحزاب أو جبهات وطنية أو حتى بمنظمات وهيئات نقابية أو حتى روابط طلابية.
مع انعدام السياسة يقفل الشارع بحراب السلطة، ويصبح النزول إليه للتعبير عن الاعتراض على قانون جائر أو تدبير خاطئ، «تهديداً للسلامة العامة» ومصدر خطر على النظام أو الانتظام العام، ولا بد من قمعه مهما كان الثمن.
في ظل هيمنة السلطات البوليسية وانعدام الحياة السياسية، حيث لا أحزاب ولا نقابات ولا هيئات شعبية تمثل الرأي العام أو تعبر عنه، ينعدم الحوار في الداخل، وينشأ نوع من التحالف غير المألوف بين أنظمة مختلفة في شعاراتها وإن توافقت سياساتها، في وجه الشعوب التي يصبح سهلاً اتهام المنظمات والهيئات وحتى الروابط الطلابية فيها بأنها «تنظيمات سرية تعمل لقلب نظام الحكم»!
بالمقابل يسهل على هذا النظام أو ذاك عند أي خلاف (وما أسهل اختلاق الخلافات مع الخارج لإشغال الداخل عن مشاكله) اتهام جاره الشقيق بالتآمر على النظام والخروج على مقتضيات الأخوة وقرارات مجلس الأمن الدولي والتواطؤ مع الأعداء – بغير تحديد - تمهيداً لإقفال الحدود وإطلاق حملة تشهير بالشعب الذي كان شقيقاً، قبل أيام، ونشر مناخ من العداء يتجاوز ما كان معتمداً ضد «الكيان الصهيوني» المزروع غصباً في الأرض العربية!
هكذا يمكن، وعبر نظرة سريعة إلى خريطة ما كان يسمى «الوطن العربي»، اكتشاف الخلل في العلاقات بين غالبية الدول العربية. بل إن سوء العلاقات يمكن أن يدفع إلى حافة الحرب، بحيث يمكن أن يتحول العدو الإسرائيلي «حليفاً» لأي من النظامين، بل لكليهما معاً!
لقد اختفى الحديث عن المصير الواحد، وعن المصالح المشتركة، بل صار لكل نظام مصيره، وربما على حساب مصير النظام الآخر. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن بعض الدول العربية (قطر، مثالاً) قد أعلن الحرب على مصر، بشعبها قبل نظامها، بسبب التصادم بين النظام الجديد و «الإخوان المسلمين» الذين تيسّر لهم أن يقفزوا إلى السلطة في غفلة من الشعب وثورة الميدان العظيمة.
وهناك دول عربية أخرى (السعودية مثلاً) اندفعت إلى حومة الحرب في سوريا وعليها بسبب خلاف طارئ مع النظام فيها وقد كان له موقع الحليف الأول والشريك بالدم في الحرب ضد صدام حسين في العراق، والشريك بالمصالح في لبنان وأنحاء أخرى.
كذلك فإن هناك «قطيعة» بين السعودية ومعظم الخليج من جهة، وبين الحكم القائم في العراق من جهة أخرى، من دون تقديم أسباب سياسية لهذه الخصومة.
بالمقابل، فإن دولاً مثل السعودية وبعض إمارات الخليج بعنوان قطر، تنافس مصر وتزاحمها في بعض أقطار أفريقيا، وتتقدم لتحاول احتلال مكانها مما يوسع المجال أمام العدو الإسرائيلي لكي يوسع نفوذه ويتقدم للسيطرة على القرار في بعض الدول الأفريقية. ويمكن الاكتفاء بنموذج الحبشة في خلافها المفتعل مع مصر حول مياه نهر النيل، ما يهدد مصر في حياتها. مع ذلك فإن بعض الأنظمة العربية لم تتورع عن مساندة أثيوبيا في مواجهة مصر، جنباً إلى جنب مع العدو الإسرائيلي لأسباب غير مفهومة ولا يمكن تبريرها.
الأخطر من هذا كله أن التخلي شبه الجماعي عن قضية فلسطين، التي كانت مقدسة ذات يوم، قد حوّل المسألة إلى «ميدان مراهنات» بين الدول العربية مَن يسبق مَن إلى توطيد العلاقة مع العدو الإسرائيلي، وعلى حساب حقوق شعب فلسطين في أرضه.
بالمقابل فإن الحرب، في سوريا وعليها قد جمعت، في صف واحد، ولو بشكل غير مباشر، إسرائيل مع بعض الدول العربية (حوار الأميركي تركي الفيصل مع بعض القياديين الإسرائيليين في ندوة علنية اتخذت عنواناً ملتبساً حلّ فيه الديني محل السياسي). هذا فضلاً عن العلاقات الوطيدة الآن بين قطر وإسرائيل، والعلاقات في الظل مع دولة الإمارات، والعلاقات العلنية والوثيقة مع المغرب ودول أخرى.
ولعل أبرز الأمثلة الفاقعة على الانفصام في سياسة الدول العربية يتبدّى واضحاً في واقع الأزمة بين مصر وتركيا، إثر خلع حكم «الإخوان المسلمين» في مصر. فلقد توثقت العلاقات بين كل من السعودية وتركيا وكادت تصل إلى مشارف الوحدة السياسية بين قطر وتركيا، إثر محاولة الانقلاب العسكري في أنقرة، بينما كانت الأزمة في ذروة احتدامها بين مصر وتركيا.
باختصار، فإن الدول العربية منشغلة في سلسلة من الحروب في ما بينها، بينما العدو الإسرائيلي يكاد يتعب من جمع انتصاراته الديبلوماسية والسياسية والعسكرية التي يجنيها من العرب وعلى حساب مستقبلهم في أرضهم.
وعلى المقلب الآخر، تذوي القضية الفلسطينية التي كانت جوهر الصراع من أجل مستقبل عربي أفضل، إذ ينشغل العرب (بمن في ذلك القيادة الفلسطينية) عن قضيتهم المقدسة، فيدخلون البازار مزايدة ومناقصة مع الولايات المتحدة الأميركية، ثمّ مع العدو الإسرائيلي مباشرة.
إن العرب مشغولون عن بلادهم، بل عن أنفسهم، بخصومات مفتعلة لا تنتهي، أبرز الأمثلة يتجسد في الحرب غير المبررة في اليمن، والتي تهدف في ما تهدف إليه خارج الصراع على النفوذ، في تسعير الحرب المذهبية والطائفية، كبديل من الحرب مع العدو الحقيقي والدائم: إسرائيل.
إن السياسة تكاد تنعدم في هذه المنطقة التي تخلّى عنها أهلها لأعدائهم وخصوم مصالحهم الوطنية والقومية، يتقدمهم الكيان الإسرائيلي. وقد اختفت من القاموس السياسي العربي كلمات لها دلالات معروفة مثل «الامبريالية» و «الاستعمار» و «الصهيونية».
وبالمقابل اختفت من هذا القاموس كلمات لها دلالات معروفة مثل «العروبة» و «القومية العربية» و «التحرر» و «الوحدة»، فضلاً عن «التحرر» و «الاشتراكية» والمزج بينهما وبين العروبة.
هكذا يعيش العرب خارج هويتهم الجامعة، تتناهبهم الطموحات التوسعية لبعض حكامهم والتصاغر أمام العدو القومي بالتنازلات المتوالية التي كادت تذهب بجدارتهم وبتاريخهم، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
وفي ظل الضياع تصبح الحرب الأهلية العربية احتمالاً قائماً، نعيش الآن بعض فصولها، فنكاد نخرج من الحاضر وأساساً من المستقبل.
] تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية.