طلال سلمان
تراجع الاهتمام العربي بأخبار مصر، بمقدار ما تقدمت صورة «الدولة الجديدة» لتحل محل وعود الثورة الآخذة إلى الغد الموعود: نهضة شاملة في السياسة والثقافة والاجتماع، في الاقتصاد والزراعة ومختلف وجوه الإنتاج.
غلبت في الداخل المصرى لغة الانتخابات حاملة معها تعابير كان يؤمل أن تندثر مع اندثار عهود الطغيان، وتردى الإعلام الانتخابي مستعيدا مفردات النفاق السياسى الذي يسىء إلى كرامة الجماهير وطموحاتها المشروعة أكثر مما يفيد المستهدف بتأييد لا يحتاجه أو انه ــ بصيغة أدق ــ لم يعد بحاجة إليه.
كان الافتراض أن «الميدان» بشعاراته الممتازة، وهتافاته المدوية بالمأمول من الثورة والمرتجى انجازه عبر انتصارها، قد عبر عن دخول الشعب المصري ــ بجماهيره هائلة الأعداد ــ عالم السياسة بالمعنى الأصلى للكلمة، أى بما هى تعبير عن الطموح إلى تحقيق أهدافه المشروعة فى الديمقراطية والعدالة والتقدم ودخول العصر.
لكن اللغة السائدة فى الإعلام المصرى، مرئيا ومكتوبا، تراجعت بل هى تخلفت لتعيد تأكيد انتمائها إلى عصور ما قبل الثورة وما قبل الميدان وانجازاته التاريخية التى تجاوزت كل تقدير.
ولقد استذكر بعض المعمرين ما كان يقال فى منافقة الملوك ومداهنة أصحاب السلطان فى قديم العصور والأوان.
أما الشباب ممن افترضوا أن لهم مكانا محفوظا فى «الميدان»، برغم أنهم يقيمون خارج مصر، فقد أصيبوا بصدمة عنيفة لتدهور «اللغة» بتعابيرها ودلالاتها، وعودة «النفاق السياسي» ليسود وقد استعاد لغة مهجورة، أو يفترض أن العصر قد أسقطها من القاموس ومن التعامل اليومى.
والحديث عن «اللغة» هنا يتجاوز مفرداتها ودلالاتها إلى المناخ الذى يتبدى وكأنه ما زال يسمح بها ويجيزها، فى حين أن انتماءها واضح إلى عصور مضت تتجاوز القرن الحالى إلى ماضى الإذلال والقهر ونفاق السلطان طلبا لإنعامه إن لم يكن خوفا من سيفه.
<<<
إن الافتراق موجع بين الآمال العراض التى فتحتها الجماهير بتدفقها المذهل إلى «الميدان» وصمودها فيه زمنا من اجل التغيير، ثم عودتها إليه مجددا لتصحيح المسار ومسح أخطاء الغفلة والتسامح التى أفادت أهل الماضى من المنتسبين إلى تيار الإخوان المسلمين ومن والاهم ومن يدعمهم ويرعاهم فى الداخل المصرى، بل العربى عموما، وفى الخارج التركى بل الأممى بعدما صار بعض الغرب، والأمريكى تحديدا بعد البريطانى، هو من يتعهد «الجماعة» بالدعم ماديا ومعنويا، بذريعة نصرتهم على «السلفيين»... والباحث عن الفروق بين هذين التيارين كالباحث عن إبرة فى كومة التبن.
وبصراحة مطلقة يمكن القول أن المشير عبدالفتاح السيسى لا يحتاج مثل هذه اللغة الرخيصة التى تسيء إلى كرامة الشعب المصرى أكثر مما تسيء إليه شخصيا، وهى لا تنفعه مطلقا، خصوصا انه إذا ما أعلن قراره بالتقدم إلى منصب الرئاسة فإنه لن يحتاج إلى أمثال هؤلاء المنافقين.
وبالصراحة نفسها لا بد من القول، ولو من خارج مصر، أن ما يحتاجه فعلا المشير عبدالفتاح السيسى هو الصوت الناصح، المنبه إلى المخاطر والمصاعب الهائلة التى سوف يواجهها إذا ما قرر المضى فى ترشيح نفسه لمنصب «الرئيس»... وبقدر ما أن فوزه بأكثرية غير مسبوقة من أصوات الناخبين يبدو مؤكدا فإن ذلك يعنى ــ أول ما يعنى ــ أن المصريين قد القوا على كاهله أثقال الواقع المصرى وهى منهكة وتحتاج جهودا هائلة تتجاوز قدرة أى فرد على حملها، ولا بد أن تنتظم قوى الثورة فى فريق عمل عالى الكفاءة مؤكدة الاستعداد للبذل والعطاء والاندفاع فى عملية إعادة بناء ما هدمته عقود الطغيان من هياكل الدولة فى مصر وما ضيعته من قدراتها وفرطت به من إمكاناتها.
إن قبول منصب الرئاسة فى هذه اللحظة هو أشبه ما يكون بعملية فدائية لا يقدم عليها إلا من نذر نفسه لوطنه، فقرر أن يعطيه جهد عقله وخبرته وايمانه بالقيادة الجماعية التى تستعيد إلى موقع القرار الكفاءات المصرية المهاجرة خارج الوطن أو المهاجرة داخله بعد يأسها من دولته.
لقد انتهى، فى العالم اجمع، عصر القائد الفرد، الفذ فى قدراته، والذى يعرف كل شيء فى الاقتصاد والاجتماع والتعليم والرى والطاقة ووسائل التواصل الحديثة ــ فضلا عن السياسة بمختلف جوانبها ومجالاتها العربية والدولية.
بل أن الدول التى أقام فوق سدة الرئاسة فيها فرد واحد ولآماد غير محدودة قد انتهى الأمر فيها بأن خسرت وحدتها الوطنية وتصدع فيها كيانها السياسى، وانعدمت قيمتها الدولية.
لم يكن «الميدان» واحدا فى توجهات جماهيره... بل لعل واحدة من ميزاته العظيمة انه اتسع للمصريين الطامحين إلى الغد الأفضل جميعا، على اختلاف انتماءاتهم السياسية وتوجهاتهم الفكرية وأنماط ثقافاتهم والتباين فى تصورهم للمستقبل. فلقد تجاور فى الميدان الوطنيون والتقدميون والليبراليون والإسلاميون، لا سيما المستنير من فضائلهم، والتقليديون من عشاق مصر والطامحون إلى أن يروها قد استعادت عافيتها ووفرت لهم فرصة العمل فى مشروع غدها الأفضل.
كذلك فإن من اجتمعوا مرة ثم ثانية وثالثة فى الميدان كانوا يؤكدون استعدادهم لبذل عرق الجباه، ولوضع كفاءاتهم وما يملكون فى خدمة مشروع مصر القوية، القادرة، المستغنية عن المساعدات المذلة بشروطها والإعانات التى تأخذ إلى التبعية والقروض التى تسترهن مستقبلها وتذل شعبها... سياسيا.
<<<
لقد اسقط الميدان حكم الطاغية الفرد، معدوم الكفاءة، الذى رفعته المصادفات إلى سدة السلطة، ثم حمى «النظام» استمراره، بالتعاون مع «الخارج»، الذى وجد فيه «الشخص المناسب فى المكان المناسب»... أى الشخص الذى يحمى التبعية للغرب بشخص أمريكا والاستسلام لإسرائيل بشروطها، والنأى بالنفس عن موقع القيادة عربيا لأنه جلاب هموم ومشاكل كما انه يحمل الحاكم بأمره فوق ما يطيق.
كذلك اسقط الميدان بعد إسقاط مبارك حكم الحزب الواحد المصفح بالشعار الدينى فى هبة ثورية ندر أن شهد العالم مثيلا لملايينها وقد انتظموا فى تظاهرة بامتداد مصر، تطالب بإسقاط الطغيان باسم الدين، وتتقدم فى اتجاه تحقيق مطالبها فى الحرية والعدالة والخبز مع الكرامة، وحقها فى أن تبنى بلادها المحروسة فتعوضها دهر الشقاء الذى دمر قدراتها وأخرجها من دائرة التأثير وكاد يهدد كيانها السياسى واستقرارها عبر حرمانها من حقها فى مياه النيل، فضلا عن عاصفة تقسيم السودان التى يمكن أن تتجدد فتقسمه مرة أخرى؟!
لقد انفض الجمع فى الميدان. هذا صحيح. لكن قضية الميدان لاتزال قائمة:
انه يريد مصر حرة، ويريد نظامها ديمقراطيا، ويريد لها أن تعود إلى دورها القيادى.
يريدها قوية بوحدتها الوطنية، قادرة على إعادة بناء الدولة بجهود شعبها وكفاءاته، وحقها على من أطعمتهم من خبز شعبها حين ضربتهم الحاجة، وحمتهم حين تهددهم خطر على دولهم.
ولقد انتهى زمان الشخص الواحد، بشهادة الميدان حيث تلاقت الجماهير خلف أهداف واضحة ومحددة وليس خلف صورة لقائد فرد أو لحزب بالذات.
لقد دقت ساعة الديمقراطية فى مصر، وها هى أصداؤها تتردد فى مختلف أرجاء الوطن العربى الكبير..
والديمقراطية بالديمقراطيين وليس بتعيين من يمكن احتسابهم على الديمقراطية زورا وبهتانا.