يوماً بعد يوم، يتزايد إحساس المواطن العربي الذي طالما اعتز بهويته، أنه غريب في بلاده، أقرب لأن يكون لاجئاً أو عابر سبيل.
يتم إسقاط الهوية الجامعة التي كانت تشعره بعزة الانتماء إلى أمة عظيمة بتاريخها، برغم ما لحق به من تشوهات، وبواقعها الغني بإمكاناته والقدرات، وبأمله في مستقبل يليق بتضحيات الآباء والأجداد من أجل أن تكون بلادهم لهم، متحررة من أسار الاستعمار ومؤهلة لصنع الغد الأفضل بقدرات أهلها.
فجأة، يتم إسقاط هويته، وهي حبل الصرة مع أرضه، لتسبغ على بلاده وعليه فيها هويات غريبة: بعضها مستعاد من تاريخ سحيق وجد من يبعثه فجأة ليفرضه واقعاً، بذريعة أنه كان هو الأصل في حقبة ما قبل القوميات والوطنية، أو بإعادة الأمر إلى الدين الذي يجري تفسيخه إلى مذاهب وطوائف مصطرعة على السلطة، على حساب الوطن والأمة، التاريخ والجغرافيا.
تختفي تعابير كانت ثابتة إلى حد التقديس مثل: الأمة العربية، الوطن العربي، تحرير المحتل من الأرض، مواجهة «العدو الواحد» سواء أكان يحمل هوية «الاستعمار القديم» أو «إسرائيل» ومشروعها الإمبراطوري لاغي الأمة بأرضها وناسها، أو النزعات الانفصالية والكيانية المرتكزة إلى أساطير لا أصل لها في التاريخ أو إلى بعض المشاريع الاستعمارية التي سبق لها أن فشلت ويراد فرضها مجدداً.
وفي حين تتعاظم قدرات العدو القومي أو الوطني أو الديني، أو كل ذلك معاً، إسرائيل، تتهاوى الكيانات المجاورة لفلسطين في قلب نزاعات سرعان ما تتحول إلى عداء راسخ، تتقدم إسرائيل لتفرض نفسها «الدولة» الوحيدة في قلب الشتات العربي من حولها.
٢ ـ غيّب الانشغال بالذات أخطر الدول العربية عن دورها، خصوصاً وقد التحق معظمها بسياسات الإدارة الأميركية بوهم التحالف، في حين أن هذه الإدارة لم تخفِ يوماً حقيقة أن حليفها الوحيد والثابت في المنطقة هو إسرائيل... ولا هي أنكرت حرصها على أن تكون إسرائيل، بالدعم الأميركي المفتوح، أقوى من الدول العربية مجتمعة، سواء كانت تحيط بها جغرافياً أو تبعد عنها بمسافة صاروخ عابر للقارات.
الخريطة ناطقة الآن بالواقع الميداني وترجمته السياسية:
ـ مصر التي أفقرتها عهود الغياب عن الدور، والركض وراء سراب الانفتاح، تحاول العودة إلى مسرح التأثير، لكن أوضاعها الاقتصادية الاجتماعية تضغط عليها فتلجئها إلى دول الجزيرة والخليج، فتتقدم السعودية ومن خلفها الإمارات للعب دور المنقذ إنما بشروطه التي لا يمكن رفضها.
وليست حكاية الجزيرتين تيران والصنافير أكثر من مثل حي على استنفار الكرامة الوطنية، بغض النظر عن حقيقة من يملك الجزيرتين، خصوصاً وقد جرى الإعلان عن إعادتهما إلى «مالكهما الأصلي» الذي حرص على إسباغ نوع من الرعاية السياسية، كان بديهياً أن ترفضها الوطنية المصرية المستفزة باستعراض القوة الملكية التي تصرفت وكأنها المنقذ الذي لا بديل منه.
لقد تلازم الأمران معاً: تراجع دور مصر، التي كانت وعلى امتداد عقود، تمثل «القيادة العربية» من دون أن يشكل فقر مواردها عائقاً أمام هذا الدور المسلّم به، نتيجة وزنها الدولي، وطاقات شعبها التي مكنتها من أن تقدم دعماً غير منكور في مجالات التربية والتعليم والقدرات العسكرية والخبرات الفنية للعديد من الدول العربية، وفي الخليج خصوصاً، وبالمقابل استعراض القوة الذي قدمته الدول النفطية العربية، والذي حمل في جانب منه استقواءً على مصر يصعب على شعبها قبوله.
٣ ـ وبطبيعة الحال، لم يكن بوسع السعودية أن تمارس هذا السلوك الإمبراطوري (الأبوي) المعتمد بالأساس على ثروتها النفطية، لو أنّ العراق، مثلاً، كان موجوداً وفي عافية سياسية تمكنه من التقدم للعب الدور الذي تؤهله ثروته الوطنية للعبه.. أما وأن أرض السواد قد ضربها القحط، سياسياً واقتصادياً وحتى زراعياً، فمن البديهي أن تتسع دائرة الفراغ السياسي التي لا تستطيع إيران أن تملأها كاملة لأسباب يتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا، والانقسام الذي شطر مسلمي المشرق بين السنة والشيعة مع الالتباسات القومية وإمكان تحريك العنصرية التي تخفت ـ مثلاً ـ في مواجهة النفوذ الأميركي (أو البريطاني من قبل).
ـ بالمقابل فإن الحرب في سوريا وعليها قد أخلت الميدان في المشرق من لاعب أساسي لم يمنعه فقره من لعب دور سياسي فاعل يتجاوز قدراته الاقتصادية، في محيطه المشرقي (لبنان، فلسطين، الأردن والعراق)... وهو ما جعل السعودية، ومعها دول الخليج، تتخذ منه حليفاً، قد لا يعوّض غياب مصر، ولكنه يفتح الباب أمام السعودية للعب دور مشرقي يتبدى واضحاً في المعادلة اللبنانية الحساسة... قبل الانفجار في سوريا الذي أسقط سياسات ومحاور كثيرة، ومهد الطريق أمام المملكة المذهبة ـ وقد حولت مجلس التعاون الخليجي إلى حلف عسكري ـ اقتصادي بعنوان سياسي ـ للعب دور كانت تتطلع إليه دوماً، وقد جاءت فرصته الآن، مع غياب سوريا والعراق، معاً، عن موقع التأثير، وغرقهما في بحور من دماء شعبيهما لأسباب عديدة يختلط فيها السياسي بالاقتصادي والمحلي بالخارجي، والطائفي بالمذهبي.. من دون أن نغفل ظل القرار الأميركي الذي اتخذته إدارة أوباما بالانسحاب ـ عسكرياً ـ من البؤرة المشتعلة في الشرق الأوسط.. لولا أن اضطرها تمدد «تنظيم الدولة الإسلامية ـ «داعش» إلى تعديل القرار، مكتفية بدور «الخبير» و «المنسق» والمتدخل جواً دون التورط بإرسال جحافل برية إلى الأرض، سواء في العراق أو في سوريا... مع حرصها على إبعاد تركيا عن هذا «الملعب» الذي طالما تطلعت إلى اجتياحه والسيطرة على قرار دوله.
٤ ـ ومع أن تركيا حاولت استغلال حاجة السعودية إلى طاء المؤتمر الإسلامي الذي عقد دورته الأخيرة في اسطنبول، ووقفت معها في مواجهة إيران، إلا أنها عمدت إلى استقبال الرئيس الإيراني مباشرة بعد انتهاء المؤتمر، لأنها تريد أن تكسب ذهب السعودية والخليج من دون أن تهدد علاقاتها الحساسة بالجار الإيراني الكبير وصاحب الدور المؤثر في المنطقة... خصوصاً وإنها على باب «حرب حقيقية» مع المكون الكردي في الدولة وريثة السلطنة العثمانية..
]]]
عشية القمة الإسلامية في اسطنبول، كان قد جرى تشييع جامعة الدول العربية في القاهرة.. إذ جاءتها دول مجلس التعاون الخليجي بقرارات مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية لتبصم عليها، من دون نقاش. وهكذا كان على مجلس الجامعة العربية أن يصنف «حزب الله» في لبنان «منظمة إرهابية»، قافزاً من فوق الدور التاريخي لهذا الحزب في قتال العدو الإسرائيلي حتى إخراجه وتحرير الأرض اللبنانية سنة 2000، ثمّ في الانتصار على الحــرب الإسرائيلية على لبنان صيف العام 2006.
إذا كان القرار للأغنى فلا قيمة لأصوات هذا الحشد من الدول الإسلامية التي تلاقت في اسطنبول، والتي كانت تلقت في السنوات الأخيرة، وفي السنة الحالية بالذات، أنماطاً من المساعدات والقروض والهبات، تكفي لتحديد وجهة تصويتها، من دون الاهتمام بالآثار البعيدة لهذا التصويت.
٥ ـ إنّ محاولة إسقاط العروبة، كهوية جامعة لهذه الدول التي تحتل مكانة حيوية بل إستراتيجية فريدة في بابها في قارتي آسيا وأفريقيا، هي خدمة مجانية للعدو الإسرائيلي، الذي اجتهد وما زال يجتهد لاختراق الدول الإسلامية، كما اخترق العديد من الدول العربية فأسقطت عنه صفة «العدو» واندفعت إلى التعامل معه بذريعة الاضطرار بعد إعلان العجز عن مقاومته.
ولن يغني «الإسلام» كهوية هؤلاء الأشقاء العرب الذين يقاتل أغنياؤهم الآن فقراءهم بسلاح الذهب... بل النتيجة ستكون إضعافاً مزدوجاً للعروبة والإسلام، بينما كانا معاً ذخيرة روحية تعزز طموح هذه الأمة العربية لتحقيق مستقبل يليق بها.